معالم المنهج الإسلامي في التصدي للفساد الإداري والماليThe features of the Islamic approach to dealing with administrative and financial corruption Caractéristiques de l’approche islamique dans la lutte contre la corruption administrative et financière
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 vol 19-2022

معالم المنهج الإسلامي في التصدي للفساد الإداري والمالي
Caractéristiques de l’approche islamique dans la lutte contre la corruption administrative et financière
The features of the Islamic approach to dealing with administrative and financial corruption
ص ص 209-234

عبد العزيز عزة
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل مشكلة مستعصية تتمثل في انتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي في مختلف بقاع العالم كآفة مدمرة تجتاح أركان الدولة في هذا الظرف المعقد، ما حدا بالمجتمع الدولي أن يتدخل بأسره لمجابهة أخطارها الزاحفة بشتى الوسائل المتاحة في ذلك. وفي هذا  الإطار حاولت أن أتتبع  مسارات النظرة الإسلامية المتفردة في تصوراتها وتجلياتها لمجابهة هذا الواقع المرير، وطريقة الإسلام في عرض منهجه المتكامل في التصدي لهذه الظاهرة  في مفهومها الشمولي، مركزا على تبيان أهم معالم وحلقات هذا المنهج الرصين في مجابهته لهذه الآفة، موضحا أسبابها وطرق الوقاية منها ووسائل التصدي لها، مستخدما المنهجين الوصفي التحليلي أساسا  في الوصول إلى ما قدمه من حلول ومعالجات للمشكلة، تبدأ من مستوى إعداد الفرد، إلى بناء كيان الجماعة، إلى تركيز دعائم الكيان العام، هيكلة وتنظيما وممارسة في التشريع والإدارة والقضاء، لتكريس إصلاحات وحلول جذرية مضمونة النتائج في مواجهة الفساد في الدولة.

معلومات حول المقال

تاريخ الاستلام 10-02-2021

تاريخ القبول 12-10-2021

 

الكلمات المفتاحية

الفساد الإداري والمالي

المنهج الإسلامي

التكوين التربوي

المعالجة التشريعية

القضاء الإسلامي

Ce sujet traite de la propagation du phénomène de la corruption administrative et financière comme un fléau dévastateur. Cela a incité la communauté internationale d’intervenir et de parer à ses dangers rampants par tous les moyens disponibles. Dans ce contexte, j’ai essayé la vision islamique et ses perceptions et sa méthode pour affronter ce phénomène dans son concept holistique. En mettant l’accent sur les caractéristiques du fléau, en expliquant ses causes et en exposant les méthodes de prévention et les moyens pour y faire face, en utilisant les approches descriptives et analytiques

      Mots clés

Corruption administrative et financière

Curriculum islamique

formation scolaire

traitement législatif

système judiciaire islamique

This topic deals with the study and analysis of an intractable problem represented in the spread of the phenomenon of administrative and financial corruption in various parts of the world as a devastating scourge sweeping the corners of the state in this complex circumstance, which prompted the international community to intervene as a whole to confront its creeping dangers by all available means. In this context, I tried to follow the paths of the Islamic view unique in its perceptions and manifestations to confront this bitter reality, and the method of Islam in presenting its integrated approach to confronting this phenomenon in its holistic concept, focusing on clarifying the most important features and episodes of this sober approach in its confrontation with this scourge, explaining its causes and methods of prevention Of them and the means to address them, using the descriptive and analytical approaches mainly in reaching the solutions and treatments he presented to the problem, starting from the level of individual preparation, to building the entity of the group, to focusing the pillars of the public entity, structuring, organizing and practicing in legislation, administration and judiciary, to devote reforms and radical solutions guaranteed Results in facing  corruption in the state.

Keywords

Administrative and financial corruption

Islamic curriculum

educational training

legislative treatment

Islamic judiciary

Quelques mots à propos de :  عبد العزيز عزة

د. عبد العزيز عزة     Dr. Abdel Aziz Azza  جامعة باجي مختار عنابة،الجزائرabd.azza23@gmail.com

مقدمة

من المعلوم تاريخيا أن ظاهرة الفساد التي اتخذت أشكالا مختلفة وبطرق متنوعة عبر العصور المختلفة والأزمنة السحيقة قد تسببت في تقويض كثير من الحضارات والدول في مختلف أصقاع الأرض، وكانت سببا رئيسا وكافيا لهلاك أمم بأسرها ومحوها من على وجه البسيطة.واليوم وفي ظلّ هذه الظروف العسيرة يسعى المجتمع الإنساني كله للتصدي لهذه الظاهرة التي تجفف منابع قوته وتنخر عموده الفقري، إذ وفي إطار الجهود الرامية للحد من هذه الآفة الخطيرة تحاول كثير من الدول معرفة أسبابها والكشف عن ملابساتها، علّها تتمكن بذلك من تطويق آثارها القاتلة وتلافي عواقبها الوخيمة المدمرة التي طالت كل مناحي الحياة الإنسانية الخاصة منها والعامة، كونها ترتبط في الأساس كمسألة نفسية بمفهوم الخير والشر المتولدين من طبيعة النفس الإنسانية ذاتها والتي جبلت عليهما في بدء الخليقة.مصداق قوله تعالى: «وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ ».[سورة الشمس، الآية 07 و08]

أهمية الدراسة

يمثل موضوع الفساد بشكل عام والفساد الإداري والمالي بشكل خاص سببا مهما لانهيار كثير من الأنظمة السياسية والاقتصادية، بل وسببا مباشرا للأزمة الاقتصادية العالمية التي انهار فيها النظام المالي العالمي وأفلست بسببه العشرات من البنوك والمؤسسات المالية والاستثمارية واقتصاديات كثير من دول العالم.وليس غريبا على أحد ما تقوم به الدول هذه الأيام من مكافحة شرسة وتصد كبير لمختلف مظاهر الفساد الإداري والمالي في مختلف الدوائر الحكومية، ومواجهة صارمة مع المفسدين الذين أوصلوا اقتصاديات بلدانهم إلى حافة الإفلاس والانهيار، الأمر الذي يفرض على كل الباحثين والمهتمين أن يوجهوا جهودهم وأقلامهم وكل ما يملكون من أفكار وإمكانات لمعالجة هذا الآفة المدمرة والتصدي لها واقتلاعها من جذورها.ولعل ما ورد من أحكام وحلول ناجعة في النظرة الإسلامية يدفعنا إلى عرضها، كونها تمثل أداة فعالة لبناء بيئة نظيفة تنعدم فيها كل أسباب وجذور الفساد بمختلف أشكاله.والفساد الإداري والمالي كظاهرة مؤسسية قد نال الحظ الأوفر من الانتشار والذيوع في الدول والكيانات، فلم يعد يخفى على أحد ما تعانيه مؤسساتنا اليوم وبخاصة في الدول المتخلفة من انهيار بسبب الفساد الذي أصبح يمثل المقوض الأول لدعائم العمل والتطور الشامل والتنمية المستدامة على المستويين المركزي والإقليمي في الدولة، وفي كل مساراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية.لذلك فقد تعددت أساليبه ومناهجه وأشكاله وقطاعاته وأمسى البعبع الأكبر الذي يتهدد مسار الإدارة العامة في كل دولة ويعرقل أداءها ونشاطها بشكل فضيع، لم تُجد معه الحلول الوقائية والعلاجية المقدمة نفعا، ولم تستطع السياسات القائمة اليوم أن تبني منهجا ردعيا ناجعا، يقطع دابره ويستأصل شأفته من جسم المجتمع استئصالا لا يعود معه هذا الورم الخبيث إلى الظهور.

الإشكالية

بالنظر إلى ما قدّمه الإسلام من حلول ومعالجات لمختلف المشكلات الإنسانية في شريعته الخالدة، فإنه قد عالج ظاهرة الفساد أيضا بصفتها مشكلة أساسية، تمثل الصور العكسية تماما لمسار الحياة الإنسانية أو ما يعرف بنطاق الشر، موضحا أسبابها وطرق الوقاية منها، ووسائل مكافحتها والتصدي لها من خلال عرض منهج رصين متكامل، يبدأ من مستوى تزكية النفس الإنسانية على المستويين الفردي والجماعي، إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة في جميع مسارات الحياة، إلى تركيز دعائم الكيان العام، هيكلة وتنظيما وتشريعا وممارسة.أين تبرز لدينا المشكلة نحو محاولة فهم معالم هذا المنهج وبيان مختلف حلقاته ومستوياته في معالجة ظاهر الفساد بصورة عامة والفساد الإداري والمالي بصورة خاصة.من خلال تساؤل رئيس يمكن صياغته على النحو التالي: ما طبيعة المعالم والمستويات التي وضعها المنهج الإسلامي لدرء الفساد الإداري ومكافحته ؟، وإلى أي مدى تقف هذه القواعد والأسس كسد منيع في وجه الفساد الزاحف على كل أركان الدولة وفي كل قطاعاتها؟

ذلك ما سنحاول الإجابة عليه وتتبع مساراته في هذه الدراسة مستخدمين المنهج الوصفي في عرض المادة العلمية لهذه الموضوع وتوصيف كل حلقاته ومراحله، ثم الوقوف عليه بالتحليل والمناقشة مستخدمين المنهج التحليلي الذي يفي بالغرض في هذا الباب. وهذا لا يعني أننا سنفي الموضوع حقه، رغم الدراسات التي سبقتنا في الميدان وهي كثيرة سواء في الدراسات المعاصرة، أو في الدراسات الإسلامية، وحسبنا أن نحاول تجديد الدعوة للبحث والتنقيب في الموضوع بما يقدم أنجع الوسائل وأفضل الحلول لمعالجة ظاهرة الفساد في الدولة.

هدف البحث

يهدف هذا البحث بشكل أساس إلى محاولة الوقوف على معالم المنهج الإسلامي في التصدي لظاهرة الفساد الإداري وآليات مكافحته والوقاية منه من خلال:

-التركيز على إبراز موقف الإسلام بصورة عامة والتشريع الإسلامي بصورة خاصة من ظاهرة الفساد بوجه عام، والفساد الإداري والمالي بوجه خاص، والأحكام والقواعد التي قررها لمواجهة هذا الخطر المدمر، ومختلف الآليات الإدارية والقضائية والمجتمعية التي رصدها للوقوف في وجه الفساد والمفسدين لاجتثاث هذه الآفة من جذورها.

-عرض وإبراز قواعد المنهج الإسلامي الفريد، ورؤيته الشاملة في مواجهة الفساد الإداري والمالي للاستفادة منها في حياتنا المعاصرة، والاقتباس منها واستلهام طريقتها في إعادة صياغة وبناء منظومة المؤسسات والدوائر الحكومية على وفق النظرية التشريعية الإسلامية، وتطوير مناهجنا في بناء كيان الدولة وتعزيز قدرة وكفاءة أجهزتها القضائية والرقابية والشعبية التي تضطلع بدور التصدي للفساد العام والفساد المالي والإداري تحديدا وفق مقاربة شمولية فاعلة وهادفة، أساسها العمل الدؤوب والرقابة الناجعة وإشاعة العدل في التوزيع، وكذا ترقية أداء المؤسسات وفقا لقواعد الشفافية والمساءلة والسعي لتحقيق الحكامة الرشيدة والرشادة الكاملة.

خطة البحث

من هذا المنطلق سنعالج هذا الموضوع في هذه الورقة البحثية من خلال المبحثين التاليين:

المبحث الأول: يتناول: التصدي التربوي والتشريعي لظاهرة الفساد في المنهج الإسلامي

المبحث الثاني: يتناول الوسائل الإدارية والقضائية في التصدي للفساد في النظام الإسلامي

خاتمة: تتضمن ما تم التوصل إليه من نتائج ومقترحات وتوصيات في هذا الشأن.

 

 

التصدي التربوي والتشريعي لظاهرة الفساد في المنهج الإسلامي

تشكل ظاهرة الفساد بكل أنواعها ظاهرة معقدة وتفصليه، تجعل من تحديد مفهوم الفساد أمرا صعبا، بسبب التعقيدات والقضايا المختلفة والمتشابكة التي تتداخل وتتقاطع مع هذه الظاهرة، إنها مسألة لا يمكن تحديدها وضبط معالمها إلا وفق تحديد مقاربات بعينها لدراستها والتحقيق فيها، والولوج إليها وفق مُدخلات محددة تصل بالباحث إلى مخرجات يستطيع أن يتحكم في نتائجها.لذلك سأحاول قبل التطرق للتصدي التربوي والتشريعي لظاهرة الفساد في المنظور الإسلامي أن أشير إلى مفهوم الفساد بشكل عام والفساد الإداري والمالي بشكل خاص في هذه النظرة، مبينا أهمية الوسائل التربوية للوقاية منه، ومحددا معالم التصدي التشريعي الذي قدمه المنهج الإسلامي للدولة والمجتمع لمجابهة هذه الظاهرة المدمرة في كل أبعادها، حيث سأتناول هذا المبحث من خلال تقسيمه إلى المطالب التالية:

المطلب الأول: يتناول مفهوم الفساد الإداري والمالي.

المطلب الثاني: يتناول دور المنهج التربوي الإسلامي في الوقاية من الفساد الإداري والمالي

المطلب الثالث: يتناول التصدي التشريعي لظاهرة الفساد الإداري والمالي في النظام الإسلامي

مفهوم الفساد الإداري والمالي

تعد ظاهرة الفساد من الظواهر المعقدة التي اختلفت فيها الآراء وتشعبت فيها التعاريف والمصطلحات، إذ لم يتمكن الباحثون من الوقوف على تعريف محدد لهذه الظاهرة، إلا أنها في مجملها تتوافق حول مضامين متقاربة.حيث يطلق مصطلح الفساد في لسان العرب على نقيض الصلاح.كما استعمل للدلالة على التغير، يقال فسد الشيء إذا تغير في نفسه، وفسد الطعام إذا تعفن، وتفاسد القوم إذا تدابروا وقطعوا أرحامهم، ومن معانیه: التلف والعطب والاضطراب والخلل والجدب والقحط والبطلان والاضمحلال وإلحاق الضرر.(ابن،منظور، د ت) و(الفیروز،آبادي، ب- د- ت) و(الرازي، 1985).وقیل: الفساد من الثلاثي فسد، وهو یدل على خروج الشيء عن الاعتدال قلّ الخروج عنه أو كثر، وهو نقیض الصلاح، ویستعمل ذلك في النفس، والبدن، والأشياء الخارجة عن الاستقامة.(الراغب، 2001)

سأحاول التطرق لمفهوم الفساد الإداري والمالي في الدراسات المعاصرة (فرع أول). ثم التطرق لمفهوم الفساد الإداري والمالي في المنظور الإسلامي (فرع ثان).

مفهوم الفساد الإداري والمالي في الدراسات المعاصرة

تباينت آراء الفقه القانوني والدراسات المعاصرة الأخرى، والمفاهيم التي قدمتها المنظمات والمؤسسات الدولية حول تحديد مفهوم الفساد تبعا لاختلاف المذاهب والتوجهات الفكریة التي ينطلقون منها في دراسة هذه الظاهرة، واختلاف طبيعة الدراسة أو المقاربة المنتهجة في ذلك.

مفهوم الفساد في الدراسات الفقهية المعاصرة

نقصد بالدراسات الفقهية المعاصرة مختلف التوجهات المعرفية والعلمية، والتيارات الفكرية التي تناولت موضوع الفساد بالدراسة والتحليل والتتبع، كالدراسات القانونية والدراسات الاجتماعية ودراسات علم الإدارة والدراسات الاقتصادية ونحوها، نتناولها فيما يلي:

مفهوم الفساد في الدراسات القانونية

تعد ظاهرة الفساد المالي والإداري من القضايا الأساسية التي تصب في صميم اهتمامات القانون، ما حدا بالمهتمين بالدراسات القانونية أن يعملوا على محاولة فهم الظاهرة وضبط المفاهيم المتعلقة بها من خلال تقديم جملة من التعاريف التي رصدناها في هذا منها: 

أن الفساد هو: «استخدام السلطة العامة من أجل كسب أو ربح شخصي، أو من أجل تحقیق هیبة أو مكانة اجتماعیة، أو من أجل تحقیق منفعة لجماعة، أو طبقة ما بالطریقة التي یترتب علیها خرق القانون، أو مخالفة التشریع ومعاییر السلوك الأخلاقي» (شتار، 2003) و(معابرة، 2001) و(هلال، 2010)، على أن يكون ذلك مقرونا بهدف أو غرض معین، وبذلك یتضمن الفساد انتهاكا للواجب العام، وانحرافا عن السلوك القویم وعن المعاییر الأخلاقية في التعامل.أو هو: «محاولة شخص ما وضع مصالحه الخاصة بصورة محرمة أو غیر مشروعة فوق المصلحة العامة أو فوق المثل التي تعهد بخدمتها»، (آل،الشيخ، 2007) أي أن الفساد هنا نتاج نظام بیروقراطي، تسوده الرشوة والمحسوبیة والوساطة خدمة للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة بتلك الطرق غیر المشروعة المخالفة والمنافية لمثل ومبادئ النزهة في العمل.

ما يلاحظ بصورة عامة على هذه التعریفات أنها حصرت مفهوم الفساد في سوء استخدام السلطة العامة من قبل الموظفین العمومیین خدمة للمصلحة الشخصیة أو الفئویة على حساب المصلحة العامة، كل ذلك یكون بخرق القانون أو غیابه أو التنصل من القیم الأخلاقیة.أي أن أغلب فقهاء القانون اقتصروا في تعریف الفساد على ما یتم من تجاوزات غیر قانونیة ولا أخلاقیة داخل أروقة الوظيفة العامة أو السلطة العامة خدمة للأغراض الشخصية.

مفهوم الفساد في الدراسات الإدارية

تشير أدبيات الفكر الإداري في تحليلها لمفهوم الفساد على أنه «الحالة التي تدفع ا الموظف للقيام بعمل ما نتيجة محفزات ماديه أو غير ماديه وغير قانونيه لصالح مقدم المحفزات وبالتالي إلحاق الضرر بالمصلحة العامة، أو هي النشاطات التي تتم داخل جهاز إداري حكومي والمسبب فعلا إلى حرف ذلك الجهاز عن هدفه الرسمي الذي يمثل طلبات الجمهور والمصلحة العامة لصالح أهداف خاصة سواء كان ذلك بصيغة متجددة أو لا وبأسلوب فردي أم جماعي منظم.» كما عرف بأنه «النشاطات التي تتم داخل الجهاز الإداري الحكومي، والتي تؤدي فعلا إلى انحراف ذلك الجهاز عن هدفه الرسمي لصالح أهداف خاصة، سواء أكان ذلك بصفة متجددة أم مستمرة، وسواء أكان بأسلوب فردي أم بأسلوب جماعي منتظم».(آل،الشیخ، 2007)

لقد ركزت هذه التعاریف على الانحراف الإداري ودوره في مختلف النشاطات التي تمارس داخله لتحقیق أهداف وغایات خاصة ومن ثم فساد الجهاز الإداري، وهو بذلك لم یشر إلى الموظف العام بصفة صریحة.

مفهوم الفساد في الدراسات الاجتماعية

یعتبر علماء الاجتماع الفساد ظاهرة اجتماعیة ویستعملونه للدلالة بصورة عامة على مجموع الأعمال المخالفة للقانون والعرف من أجل تحقیق المصلحة الشخصیة على حساب المصلحة العامة.وعلى هذا الأساس یعرف الفساد عندهم على أنه: «السلوك الذي ینحرف عن المعاییر والقواعد التي تنظم ممارسة وظیفة عامة، أو أداء دور جماعي للحصول على نفع شخصي أو جماعي غیر مستحق، أو التهاون في الالتزام بمعاییر الأداء السلیم للواجبات، أو تسهیل ذلك للآخرین»(الشمري،الفتلي، 2011) و(آل،الشیخ، 2007). ولعل من أوضح التعاريف التي تناولت الفساد الإداري والمالي هو ما ورد في موسوعة العلوم الاجتماعية «الفساد هو سوء استخدام النفوذ العام لتحقيق مكاسب خاصة، ويشتمل ذلك على جميع أنواع رشاوى المسؤولين المحليين أو الوطنيين أو السياسيين، مستبعدة رشاوى القطاع الخاص». إن هذا التعریف یتناول العلاقة بین الفساد والقطاع العام مستبعدا العلاقة بین الفساد والقطاع الخاص.ينظر للفساد من هذه الزاویة على أنه تعبیر عن بنیة وتنظیم علاقات تتحكم بنسب مختلفة في الإنتاج الاجتماعي الإنساني الذي یطلق على مجتمع ما، وأنه ناتج عن انهیار سلم القیم الاجتماعیة التي تولد أزمة الثقة بین الحاكم والمحكوم، وبذلك فالفساد هنا لم یكن قاصرا على المال العام وما یلحقه من تخریب وإتلاف وتبدید.

الفساد في الدراسات الاقتصادية

هو: «الانحراف عن الطریق المستقیم بما یتنافى مع الدیانات السماویة ومبادئ الأخلاق السویة».(أسامةالسيد، 2009) أو هو: «الإخلال بالواجب المهني والأمانة التي یفرضها العمل الوظیفي، وسوء استخدام المنصب العام لغایات شخصیة».(بوزیان، 2009).وهناك من عرفه بأنه:» استغلال أو إهمال للقانون للحصول على مكاسب مادیة أو معنویة على حساب الأفراد أو المجتمع «أي محاولة الحصول على مكاسب شخصیة على حساب العامة بإهمال للقانون أو استغلاله. أو هو: «كل عمل یتضمن سوء استخدام للسلطة العامة لأغراض خاصة، وهو أیضا خروج عن النظام والقانون أو استغلال غیابهما وتجاوز السیاسة والأهداف المعلنة والمعتمدة من قبل السلطة السیاسیة وغیرهما من المؤسسات الشرعیة وذلك بغیة تحقیق منفعة شخصیة سواء أكانت سیاسیة أم اجتماعیة أم مالیة للفرد أم للجماعة».(الرملاوي، 2012)

ركزت هذه التعاريف على استغلال الموظف للمهام  والصلاحيات الموكلة به سواء أكانت عامة أم خاصة قصد تحقيق امتیازات غیر مبررة مهما كانت طبیعتها. أو الحصول على كسب غیر مشروع من مثل السیطرة على المال العام، أوتلقي الرشاوى والعمولات. إلا أن تركیز علماء الاقتصاد في تعریفهم لمصطلح الفساد على المعیار المادي الذي یحصر الظاهرة في جوانبها الاقتصادیة والمالیة فحسب يؤدي إلى إهمال بقیة العناصر، كالقیم الاجتماعیة مثلا التي تؤثر في الفساد. ومن ثم فإن الاتجاه الاقتصادي وحده لا یكفي لتفسير هذه الظاهرة في جوانبها المختلفة.

إن مما يلاحظ باستقراء مجمل التعاريف التي قدمها الفقهاء تبعا لتوجهاتهم المختلفة أنه لا یوجد اتفاق على مفهوم محدد للفساد بصفة عامة نظرا لتعدد وسائله وأساليبه، إلا أن مجمل التعاريف لا تكاد تخرج عن كون الفساد انحرافا وخروجا عن طریق الجادة والصواب بمخالفة الشرائع والقوانین والنظام العام، لغرض تحقیق مصالح خاصة، مادیة أو معنویة على حساب المصالح العامة أو الخاصة للأفراد والجماعات.

مفهوم الفساد في منظور المنظمات والهيئات الدولية

تعريف البنك الدولي للفساد

 عرف البنك الدولي الفساد على أنه: «سوء استغلال السلطة العامة من أجل الحصول على مكاسب خاصة (الشمري،الفتلي، 2011) «أي هو: استغلال المنصب العام بغرض تحقیق مكاسب شخصیة، وهو من أشهر تعاريف الفساد، والمنصب العام كما عرفه القانون الدولي هو: «منصب ثقة یتطلب العمل بما یقتضیه الصالح العام».(حسني،1992)

يشمل هذا التعریف على كل ممارسات الاستغلال السیئ للوظیفة الحكومیة أو الخاصة عندما یتعلق الأمر بالشركات الكبرى والرشاوى، كالعمولات، التهرب الضریبي والجمركي، وإفشاء الأسرار العقود والصفقات.أي أن الفساد یحدث عن طریق استغلال الوظیفة العامة وذلك باللجوء للرشوة والعمولة، كما یحدث أیضا عن طریق استغلال الوظیفة العامة ولكن من دون اللجوء للرشوة وذلك من خلال الوساطة والمحسوبیة في الوظائف العامة أو ما یعرف بالتحیز لجهة على حساب الأخرى.فالفساد یحدث عادة عندما یقوم الموظف بقبول أو طلب أو ابتزاز رشوة لتسهیل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة، كما یتم عندما یقوم وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة بتقدیم رشاوي للاستفادة من سیاسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافسین وتحقیق أرباح خارج إطار القوانین السارية، كما یمكن للفساد أن یحدث عن طریق استغلال الوظیفة العامة دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعیین الأقارب أو سرقة أموال الدولة مباشرة.

یشیر هذا التعریف إلى وسیلتین رئیسیتین من وسائل الفساد:

-دفع «الرشوة» و«العمولة» المباشرة إلى الموظفین والمسؤولین في الحكومة، وفي القطاعین العام والخاص لتسهیل عقد الصفقات، وتسهیل الأمور لرجال الأعمال والشركات الأجنبیة ووالوطنية.

- وضع الید على «المال العام» والحصول على مواقع متقدمة للأبناء والأقارب في الجهاز الوظيفي، وفي قطاع الأعمال العام والخاص، وهذا النوع من الفساد یمكن تسميته بـ «الفساد الصغير» وهو مختلف تماما عما یمكن تسميته بـ «الفساد الكبير» المرتبط بالصفقات الكبرى وفي عالم المقاولات، وتجارة السلاح، والحصول على التوكیلات التجاریة للشركات الدولیة الكبرى المتعدیة الجنسیة، وما إلى ذلك من ممارسات.(الشمري،الفتلي،2011)

ویحدث مثل هذا «الفساد الكبیر» عادة على المستویین السیاسي والبیروقراطي، وعادة ما یرتبط «الفساد السیاسي» بالفساد المالي حین تتحول الوظائف العمومیة العلیا إلى أدوات للإثراء الشخصي المتصاعد أو هو: «استعمال الوظیفة العامة للكسب الشخصي»(الرملاوي، 2012) یتداخل هذا التعریف مع أطروحة صندوق النقد الدولي الذي ینظر إلى الفساد من حیث أنه علاقة الأیدي الطویلة المعتمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو مجموعة ذات علاقة بالآخرین، حيث یصبح الفساد علاقة وسلوك اجتماعي تسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي فیما یمثل عند المجتمع المصلحة العامة.یستشف من التعریف السابق للفساد الذي قدمه البنك الدولي ما يلي: أن الفساد یقع من موظف عام، وأن الفساد يقع على مرفق عام.وأن الهدف منه هو الحصول على مكاسب أو مزايا زیا مادیة أو معنویة لمصلحة مرتكب الفساد أو مصلحة غیره.

 الملاحظ أن هذا التعریف قد ركز على القطاع العام  وعلى أن المتورطین في الفساد هم من الموظفین العمومیین وكبار مسؤولي الدولة، ولكن الواقع یؤكد أن الفساد لا یسلم منه لا القطاع العام ولا القطاع الخاص.ولهذا عرفه بعضهم بأنه «إقناع شخص عن طریق وسائل خاطئة بانتهاك الواجب الملقى على عاتقه»، وقیل هو: «سوء استخدام السلطة من قبل الموظف المعني في القطاع العام أو القطاع الخاص من أجل تحقیق مكاسب خاصة وشخصیة معنویة أو مادیة بمختلف الوسائل المتاحة غیر المشروعة نظامیا بصورة سریة أو علنیة».(كلیتجارد، 1994)، بیّن هذا التعریف أن الفساد هو سوء استغلال المنصب سواء أكان ذلك في القطاع العام أم القطاع الخاص، وهذا على خلاف التعریف السابق الذي حصر الفساد في القطاع العام دون الخاص.

تعريف منظمة الشفافية الدولية للفساد

عرفت منظمة الشفافیة الدولیة الفساد بأنه: «محل عمل یتضمن استخدام المنصب العام لتحقیق مصلحة خاصة ذاتیة لنفسه أو لجماعته»،(جعفر، 2003) يعنى ذلك أن الفساد فيه توظیف للمصلحة العام لأجل تحقیق مصالح ومآرب شخصیة حتى، ولو كانت هذه المصالح لفئة من الناس ولیس لشخص الموظف فقط، فقد تكون لحزبه، أو مذهبه، أو عشیرته، وعلى العموم فهو عمل ضد الوظیفة العامة التي تشكل في الأصل محلا لثقة الجمهور.فالفساد يحدث عندما يقوم موظف بقبول أو طلب ابتزاز أو رشوة لتسهيل عقد أو إجراء لمناقصة، كما يتم عندما يقوم وكلاء أو وسطاء لشركات أعمال خاصة بتقديم رشاوي للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافسين أو تحقيق أرباح خارج إطار القوانين، كما يمكن أن يحدث الفساد عن طريق استغلال الوظيفة العامة دون اللجوء إلى الرشوة، وذلك بتعيين الأقارب أو اختلاس أموال الدولة مباشرة.وفي هذا الشأن يمكن التمييز بين الفساد المالي الذي يتمثل بمجمل الانتهاكات المالية ومخالفة القوانين المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومؤسساتها ومخالفة التعليمات المتعلقة بأجهزة الرقابة المالية.أما الفساد الإداري فيتمثل في الانتهاكات الإدارية والوظيفية ومجموع المخالفات التي تصدر من الموظف العام أو المكلف بالخدمة العامة أثناء تأديته لمهام وظيفته في نطاق التشريعات والقوانين والضوابط. مثل عدم احترام أوقات ومواعيد العمل في الحضور والانصراف، أو تمضية الوقت في قراءة الصحف واستقبال الزوار أو انجاز الأعمال الخاصة، أوالامتناع عن أداء العمل أو التكاسل في ذلك وعدم تحمل المسؤولية وإفشاء أسرار الوظيفة.

ومما يجدر ذكره هنا أن الفساد الإداري توي على قدر من الانحراف المتعمد في تنفيذ العمل الإداري المناط بالشخص، غير أن ثمة انحرافا إداريا يتجاوز فيه الموظف القانون وسلطاته الممنوحة دون قصد سيئ بسبب الإهمال وعدم المبالاة، وهذا الانحراف لا يرقى إلى مستوى الفساد الإداري، لكنه انحراف يعاقب عليه القانون وقد يؤدي في النهاية إذا لم يعالج إلى فساد إداري.(الشمري،الفتلي، 2011)

تعريف منظمة الأمم المتحدة للفساد

عرف مشروع اتفاقیة الأمم المتحدة لمنع الفساد ومكافحته لسنة 2003 الفساد بأنه: «القیام بأعمال تمثل أداء غیر سلیم للواجب، أو إساءة استغلال لموقع أو سلطة بما في ذلك أفعال الإغفال توقعا لمزیة، أو سعیا للحصول على مزیة یوعد بها أو تعرض أو تطلب بشكل مباشر أو غیر مباشر، أو إثر قبول مزیة ممنوحة بشكل مباشر أو غیر مباشر سواء للشخص ذاته، أم لصالح شخص آخر» غیر أن هذا التعریف لم يقع الاتفاق حوله، إذ تم التراجع عنه في المشروع النهائي للاتفاقیة والذي لم یعرف الفساد، ولكنه أشار إلى صوره فقط كالرشوة واختلاس الممتلكات، والمتاجرة بالنفوذ وإساءة استعمال الوظیفة، والإثراء غیر المشروع وغیر ذلك...(الفارس، 2008) والخلاصة من ذلك أن مفهوم الفساد توسع لیشمل إضافة إلى الرشوة مظاهر أخرى للفساد تفوق الرشوة خطورة من حیث آثارها كالاختلاس وسوء استعمال الوظیفة والمتاجرة بالنفوذ ونحو ذلك.

موقف المشرع الجزائري من تعريف الفساد

لم یضع المشرع الجزائري تعریفا للفساد، وإنما أشار إلى بعض صوره ومظاهره معددا بعض التصرفات التي لها علاقة بالفساد ومعتبرا إیاها على سبیل الحصر لا المثال من أفعال الفساد المجرمة بعدما كانت هذه الجرائم مبعثرة وموزعة في قانون العقوبات الجزائري، حيث نص المشرع في القانون رقم:06/01 المؤرخ في: 20 فیفري 2006 م، المتعلق بـ «الوقایة من الفساد ومكافحته» في المادة الثانية الفقرة الأولى منه بقوله « الفساد: كل الجرائم المنصوص علیها في الباب الرابع من هذا القانون.(الجريدةالرسميةالجزائرية، 2006)

علما أن هذا القانون بأنه مستوحى من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المؤرخة في: 2003/10/31 والتي صادقت عليها الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي رقم: 03/128 المؤرخ في: 04/0/200، وهي أربع جرائم إذا حصلت تعد فسادا وهي:

-جرائم الرشوة وما في حكمها.

-اختلاس الممتلكات والإضرار بها.

-والاعتداء على المال العام كالجرائم المتعلقة بالصفقات العمومية.

-التستر على جرائم الفساد.(بوسقيعة، دت).

الملاحظ أن هذا القانون لم یشر مثلا إلى باقي الصور والمظاهر التي تخرج عن مجال التجریم، وتبقى مباحة رغم خطورتها، كالوساطة والمحسوبیة والمكافأة اللاصقة وغيرها. وفي الأخير نشير إلا أننا لم نقف على تعریف متفق عليه للفساد رغم التعریفات الكثيرة التي وضعت لتحديد مفهومه في مختلف الدراسات المعاصرة، سواء في وجهة نظر الفقه أو التشريع أو المؤسسات الدولية. ويرجع السبب في ذلك لعدم اتفاق الكتاب والباحثين والمشرعين وحتى المنظمات والهیئات الدولیة المعنیة بمكافحة الفساد في هذا المجال على وضع تعریف جامع مانع له يشمل كافة أشكاله وأنواعه ويطال مختلف أبعاده وتجلياته، ویحظى بموافقة كافة المهتمين.

مفهوم الفساد الإداري والمالي في المنظور الإسلامي      

تناول الإسلام في نظرته الشاملة للحياة الإنسانية ولمفهوم الخير والشر مصطلح الفساد بإسهاب كبير وتفصيل جليل، وأسبغ عليه مفهوما شاملا يتناول كل اعتداء على مقاصد الشريعة وأحكامها وكلياتها الكبرى، وبخاصة ما يطال النفس الإنسانية، والأموال والموارد والمصالح العامة لعموم الناس وأفرادهم، واستنكره استنكار عظيما ورتب عليه العقاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥» (سورةالبقرة،الآية205)

وقال في مجال التعامل بالأموال:«وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨».(سورةالبقرة،الآية188).وقال: «ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٤١».(سورةالروم،الآية41) وقال أيضا:«فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئۡتُم بِهِ ٱلسِّحۡرُۖ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبۡطِلُهُۥٓ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصۡلِحُ عَمَلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٨١» (سورةيونس،الآية81)، وقال إخبارا عن اليهود:«وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٦٤» (سورةالمائدة،الآية64)

والآيات والأحاديث كثيرة في هذا الباب. وعلى غرار ما ورد في الكتاب والسنة من تذكير بموضوع الفساد وما تلاه من تقريع لأصحابه، فقد انشغل الفكر الإسلامي بهذا الموضوع انشغالا لافتا من خلال مختلف البحوث والدراسات التي قدمها الفقهاء والمفكرون المسلمون الذین حاولوا تفسیر مشكلة الفساد وفق ما جاء في القرآن الكریم والسنة النبویة الشريفة، ووفق ما قدمته الحضارة الإسلامية من معالجات تشريعية ومؤسسية واجتماعية في التصدي لهذه الظاهرة.فقد اتفق العلماء المسلمون على أن الفساد هو مختلف الأقوال والأفعال التي تخالف أحكام الشریعة الإسلامیة ومقاصدها من سائر الذنوب والمعاصي، فهو یتناول جمیع أعمال الشر، إذ هو في حقیقته خروج عن منهج الله تعالى في الحياة.(ابن،تیمیة، 1997-أ-)

جاء في تفسیر القرطبي: «الفساد: ضد الصلاح وحقیقته -أي الفساد- العدول عن الاستقامة إلى ضدها» (القرطبي، 1985) و (الشوكاني، ب-د- ت). وجاء في تفسیر ابن كثیر: «الفساد هو الكفر والعمل بالمعصیة».(ابن،كثير، ب-د-ت)، وكما جاء في كتاب القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام أن الفساد هو:» جميع المحرمات والمكروهات شرعا».(العز، 2000)

وقال الزمخشري:«الفساد: خروج الشيء عن حالة استقامته كونه منتفعا به ونقيضه الصلاح، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة».(الزمخشري، 1977) وقال ابن خلدون:«إن الفساد وما یتضمنه من بذخ وترف ومجون وغیرها من العناصر المتداخلة دائما ما یؤدي إلى أفول الحكم، وسقوط الدولة في ید ملك عضوض یقضي علیها، لیبدأ مرحلة تأسیس جدیدة قوامها العصبیة، إذ یرى أن سیطرة ذوي النفوذ من الحكام والأمراء الساحة النشاط الاقتصادي یؤدي إلى ذهاب رأس مال الفلاح، ویتكرر ذلك على التاجر والفلاح، بما یذهب رأس ماله فیقعد عن سوقه، ویدخل به على الرعایا من العنت والمضایقة وفساد الأرباح ما یقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، فینقبض الفلاحون عن الفلاحة، ویقعد التجار عن التجارة».(ابن،خلدون، 2001)

فبحسب ما يراه ابن خلدون أن أساس الفساد هو الولع بالحیاة المترفة في المجتمعات لدى الحكام والمحكومین، وأن الحضارة هي السبب الرئیسي في ذلك حیث یقول: «أن غایة العمران هي الحضارة والترف، وأنه إذا بلغ غایته انقلب إلى فساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبیعیة للحیوانات ، بل نقول إن الأخلاق الحاصلة في الحضارة والترف هي عین الفساد، وإذا فسد الإنسان في قدرته ثم أخلاقه ثم دینه فقد فسدت إنسانیته وصار مسخا على الحقیقة».(ابن،خلدون، 2001)

وذكر ابن الأزرق في كتابه (بدائع السالك في طبائع الملك) أن الفساد يقع عندما یحدث نوع من الاختلاط بین التجارة والإمارة إذ یقول : «لا خفاء أن تجارة السلطان تؤدي إلى ضرر الرعیة وفساد الجبایة، وأنها تؤول بآخره إلى خراب العمران ونفاد الدولة»(سعود، 2007) .وقال عنه الفیروزآبادي بأنه: «أخذ المال ظلما، والمفسدة ضد المصلحة». ويتجلى الفساد عند الإمام القرطبي في الرشوة والظلم والمعاصي وقطع الأرحام والقتل والعود. إلى الجاهلية وغیر ذلك».(أسامة،السید، 2009)

وعلى هذا فإنّ الفساد من وجهة نظر فقهاء الشریعة مرّده إلى المعاصي والابتعاد عن الأخلاق الإسلامیة السامية والرجوع إلى مبادئ الجاهلیة، فهو سبب التخلف والمصائب التي تحل بالأمم، وأن من مظاهره الرشوة والظلم والقتل وغیر ذلك، فلفظ الفساد هنا شامل وجامع لكل الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به، فكل ما خالف الصلاح شرعا أو عقلا فهو من الفساد.

إن مما يمكن التأكيد عليه واستخلاصه مما ذهبت إليه الدراسات الإسلامية هو أن المفكرين الفقهاء المسلمين في تحليلهم لظاهرة الفساد أسسوا نظرتهم للمشكلة على المعیار الأخلاقي والقیمي في تحدید مدلولات الفساد المختلفة، إذ كلما ساد التحلل من الأخلاق والقيم كلما انتشر الفساد.ولذلك كان تغييب الأسس والمبادئ الكبرى التي یقوم علیها نظام الحكم في الإسلام كنظام الشورى والمحاسبة على الشأن والمال العام في واقعنا الإسلامي المعاصر ما أفضى إلى معضلات كبيرة تركت المجتمعات الإسلامية تموج في حالة من التدهور والفوضى وعلى رأسها معضلة الفساد.

مقارنة بين مفهوم الفساد في الدراسات الوضعية ومفهومه في الدراسات الإسلامية

بالنظر إلى التعریفات الاصطلاحیة الشرعیة للفساد بشكل عام، یتبین أن للفساد مفهوما أوسع وأشمل من التعریفات الواردة في الاصطلاح الوضعي، إذ الفساد في الدراسات الإسلامية عام، یشمل كل المعاصي والمخالفات والانحرافات عن أحكام الشریعة الإسلامیة ومقاصدها أخذا من نصوص القرآن والسنة، أي أن حقیقة الفساد شرعا هو كل ما خرج عن حالة الصلاح والاعتدال التي جاء بها القرآن الكریم والسنة النبوبة الشریفة، فهو بذلك یشمل جمیع المخالفات المتعلقة بالأحكام الشرعیة سواء كانت سلوكیة أم أخلاقیة أم إداریة وسواء كانت متعلقة بالأمور الدینیة أم الدنیویة.

أما التعاریف القانونیة فهي تحدد الفساد في صور وأشكال معینة ترتبط عادة بالأعمال المتعلقة بالسلطة والوظیفة والواجبات الإداریة وبالحصول على مقابل. وبشكل عام یلاحظ ملازمة العنصرین الآتیین لفعل الفساد:

-أنه مخالف للقانون والنظام وتعلیمات المنصب العام وغیر منسجم مع القیم الأخلاقیة السائدة في المجتمع.

-سوء استخدام المنصب العام أو استعماله بهدف خدمة أغراض خاصة أو تحقیق منافع شخصیة مادیة أو معنویة، والنتیجة من ذلك أن الفساد یؤدي إلى إلحاق الضرر بالمصلحة العامة.

وعلى هذا فإن الكثیر من صور الفساد وأشكاله في الشریعة الإسلامیة التي لا تدخل ضمن صور الفساد في القانون مثل الكفر والقتل والقذف والزنا وشرب الخمر والحرابة والسرقة من غیر المال العام، فهذه الصور وغیرها لا تعتبر من جرائم الفساد في القانون مع أنها من أعظم صور الفساد في الشریعة الإسلامیة.وبهذا یتضح جلیا الفرق بین التعریف الشرعي والتعریف القانوني للفساد. لكن وعلى حد سواء نظرت كل من الشریعة الإسلامیة والقانون الوضعي على أن الفساد ظاهرة خطیرة وفتاكة بالأفراد والمجتمعات والدول على اختلاف أنواعها وأشكالها.كما تشترك مدلولات ومعاني الفساد جمیعها سواء على مستوى الشریعة الإسلامیة أم القانون الوضعي في وصف الفساد بأنه خروج الشيء عن الاعتدال أو أنه ضد الصلاح، أو أنه حالة؛ تعفن، انحلال، انحراف، قبح، تلف تدریجي، تدهور وغیر ذلك.

دور المنهج التربوي الإسلامي في الوقاية من الفساد

يعتبر المنهج التربوي الإسلامي، المحطة الإعدادية الأولى التي يتلقى فيها المسلم التهذيب السلوكي الرصين والتربية الأخلاقية الحقة في كل مستوياتها من البيت إلى المدرسة إلى الوظيفة، حيث ركز الإسلام ابتداء على غرس الوازع الديني والخلقي في نفوس أتباعه كأهم حلقة في منظومة التربية والمساءلة الشاملة على كل أفعال المسلم فردا كان أو جماعة كتربية اجتماعية عامة(فرع أول)، وفي مختلف المجالات بما فيها مجال التعامل مع الشأن العام والتصدي لكل مظاهر الانحراف والفساد في الوظيفة والإدارة، أو ما يعرف بأخلقة الوظيفة الإدارية للوقاية من الفساد الإداري والمالي(فرع ثان).

التربية الاجتماعية العامة -إصلاح الفرد وبناء الجماعة-

اهتمت الشريعة الإسلامية بالتربية الذاتية اهتماما بالغا، واعتبرتها خط الدفاع الأول في مواجهة الانحراف والفساد في شتى صوره.حيث حصل التركيز في هذا الإطار على ضرورة إعداد الإنسان المسلم فردا وجماعة إعدادا تربويا خلقيا يكفل نزاهة الضمير ويقظته، فيكون أداة فعالة للرقابة الذاتية الحية والفاعلة، أين تنبع الرقابة من النفس ذاتها على كل أفعال المسلم وأقواله في شتى المجالات، تطبيقا لقوله تعالى: «وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٨».(سورةالنحل،الآية38)، فالمسلم الحق هو الذي تنبعث من نفسه مثل هذه الرقابة واليقظة، فلا تمتد يده إلى المال الحرام عاما كان أو خاصا، لا بسرقة ولا باختلاس ولا بخيانة أمانة ولا بقبض رشوة وما إلى ذلك.(الجصاص، ب-د-ت) إن المحاسبة والرقابة الذاتية في الإسلام تتحقق من خلال قيام الموظف أو عضو الإدارة التنفيذية في الدولة بإعادة النظر في سائر أعماله وتصرفاته، وبمراجعة حساباته ومستنداته، ليتحقق من مدى مشروعيتها وعدم مخالفتها للنظم القانونية المعمول بها في الدولة، ولما صدر إليه من أوامر وتوجيهات من رؤسائه.فيقوم من تلقاء نفسه بتصحيح الأخطاء المكتشفة، وتقويم الانحرافات التي وقعت وتعديلها أو استبدالها بما هو أسلم.(الساهي، 1991)(العموري، 2005).

يرى بعض الباحثين (العموري، 2005) أن الرقابة في حقيقتها هي فكرة سلوكية مجردة، يرجع أصلها إلى علم النفس الاجتماعي، لذلك نجد الفرد المسلم يعمل على تهذيب نفسه وتطهير قلبه، وتغذية عقله بالمبادئ السامية كالمحبة والبر والتقوى، وعلى أساس هذه المبادئ ينظم حياته المالية والاقتصادية، فيقي نفسه من الوقوع في أي شكل من أشكال الفساد.إن هذا الأمر هو ما يعرف بالمبدأ العكسي الذي يعد من المبادئ العلمية التي أخذت تهتم بها الدراسات الحديثة والمتعلقة بمجالات الرقابة على تدبير الشأن العام واستعمال الأموال العامة.إذ أن الاستخدام الخاطئ للسلطات الرقابية على الوحدات الاقتصادية قد ينجم عنه العديد من المشاكل السلوكية لدى الأفراد الخاضعين لأجهزة الرقابة، على افتراض أن عملية الرقابة في حد ذاتها تنصب في حقيقة الأمر على مراقبة تصرفات وسلوك الأفراد العاملين في تلك الوحدات وليس على الأعمال والأموال بحد ذاتها.

وإذا ما تمعنا في الفكر الإسلامي وما كانت عليه أساليب الرقابة على الأعمال والتصرفات في الحياة الإسلامية، نجد أنه قد تم اعتماد المبدأ السلوكي كأساس مهم في زيادة فاعلية أنظمة الرقابة على الأداء والرقابة على استخدام الأموال في الدولة من خلال الاعتماد وبشكـل

كبير على ما يلي:

-تدعيم فكرة الرقابة الإلهية المستمرة لأفعال العباد لدى الأفراد والقائمة على أساس الثواب والعقاب، استناداً لقوله تعالى «يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗاۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٣٠».(سورة،آل،عمران،الآية:30)، وعلى ضرورة خشية الأفراد العاملين من الله قبل خشيتهم من رقابة الناس والأجهزة الرقابية الرسمية.

-ما يمتلكه الأفراد من قوة إيمانية داخلية رسختها العقيدة الإسلامية في نفوس أفراد المجتمع الإسلامي، حيث يتم الاعتماد على تقييم التصرفات الشخصية لكل فرد انطلاقاً من رقابة الذات ومدى حبها للخير وتوجهها نحوه، والابتعاد عما هو خلاف ذلك.

انطلاقاً مما سبق يمكن القول بأن اعتماد الدولة الإسلامية على المبدأ السلوكي في الرقابة على أعمال المسلمين وأموالهم يمكن اعتباره من أهم المبررات التي توضح أسباب رقي وتطور الأداء التنفيذي في الدولة الإسلامية، وابتعاده عن كل مظاهر الفساد الإداري والمالي في عصورها الزاهية.

دور الأخلقة الوظيفية في الوقاية من الفساد في النظام الإسلامي

التوجيه والإرشاد

تجلت معالم هذا النوع من التربية الوظيفية أو ما يعرف بأخلقة الإدارة، وتقويم السلوك المهني للموظفين والعمال من خلال منهج السياسة التنفيذية للدولة الإسلامية في مجال المعاملات الإدارية والتصرفات المالية العامة، إذ قد حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ البداية على التأكيد على مبدأ النزاهة في التصرف مع الشأن العام سواء كان مالا عاما أو مصلحة أو وظيفة، مبينا الحدود التي يمكن أن يصلها الوالي أو العامل في التصرف والإنفاق فقال -صلى الله عليه وسلم- :«من ولي لنا شيئا فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأة، ومن لم يكن له مسكن فليتخذ مسكنا، ومن لم يكن له مركب فليتخذ مركبا، ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادما، فمن اتخذ سوى ذلك كنزا أو إبلا جاء الله به يوم القيامة غالا أو سارقا».(ابن،حنبل، 1998، رقم الحديث17329)، فقد حدد النبي –صلى الله عليه وسلم-أوجه التصرف والإنفاق التي تسمح بها الشريعة للوالي ومن في حكمه ممن يتولى أمور المسلمين ومصالحهم العامة، وذلك ليعرف ما يحق له مما لا يحق له فلا يتجاوز هذه الحدود، فمن تجاوزها فقد اكتنز الأموال العامة وسرقها وخان الأمانة الموكلة إليه، وصار من المفسدين. وعلى نفس النهج سار الخلفاء الراشدون من بعده في سياستهم الإدارية والمالية وشواهد التاريخ حافلة بذلك، فلقد كان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحصي ثروة عماله قبل أن يوليهم العمل ليتمكن فيما بعد من مراقبة مداخيلهم وثرواتهم.(ابن،حجرالعسقلاني،1988).

محاسبة الأعمال والموظفين

يتولى الرئيس الإداري بعد استكمال العمليات الإدارية والمالية المختلفة في الإدارة الإسلامية محاسبة العمال والموظفين وتحميلهم المسؤولية القانونية على أعمالهم المخالفة للشرع، كان أول ما حدث ذلك في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-: عندما ولى رجلا يدعى:(ابن اللتبية) على صدقات (بني سليم) فجاء يقول: «هذا لكم وهذا أهدي إلي»، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « ما بال الرجل العامل نبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم لا، والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منهم بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار، أو شاة بفروة، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت».(مسلم، 1971). لقد كان رسول الله -صلى الله عبيه وسلم- يحاسب عماله على أموال الصدقات التي يجمعونها، ويحذرهم من الغلول والهدايا، ويبين لهم العاقبة الوخيمة لمن يقع فيه في الدنيا والآخرة، حيث:

-أنه حاسب المؤتمن: وهو الوالي الذي كلفه بجمع الزكاة، ليعلم ما قبضه وما صرفه من أموال الزكاة.

-منع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم، وبين أن هدايا العمال حرام وغلول، لأنه خان في ولايته وأمانته، فسبب تحريم الهدية هو الولاية.

-يؤخذ من الحديث أنه على العامل رد ما أخذه إلى صاحبه، فإن تعذر فإلى بيت المال.

-في الحديث إبطال لكل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه. وعدّه الإسلام بمثابة الرشوة التي يحرم أخذها.(ابن،حجرالعسقلاني، 1988)               

- اختيار العاملين الأمناء العدول بأن يكونوا من أهل الصلاح والتقوى، حتى لا يظلموا الناس وحتى يأمنوا جورهم. فقد ورد عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قوله: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله. ومما جاء في خصوص هذا الباب ما رواه الإمام مسلم عن عميرة بن عدي الكندي قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا، يأتي به يوم القيامة.فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله: اقبل عني عملك، قال: وما لك، قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقوله الآن، من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى» (مسلم، 1971)

إن هذا النص تنبني عليه جملة من القواعد والأحكام في مجال الوقاية من الفساد الإداري والتصدي له منها:

-تحذير العمال من أخذ شيء من أموال الزكاة وإخفائه عن الحكام، ولو كان بمقدار المخيط، هو من خيانة الأمانة.

-اعتبار كل ما يِخذه العامل زيادة على أجرته من الغلول المحرم المعاقب عليه في الدنيا والآخرة.

-أن يكتفي العامل براتبه، ولا يجوز له أخذ الزيادة، ويجب تسليم كل زيادة إلى بيت المال.

كما كان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحاسب عماله بعد انتهاء مدة عملهم ويصادر الأموال التي يحصلون عليها دون وجه حق أثناء ولايتهم، كالهدايا والأموال التي يحصلون عليها نتيجة استغلال نفوذهم، فقد صادر أموال أبي موسى الأشعري حين كان واليا على البصرة، وصادر مال الحارث بن وهب، وكذلك فعل مع أبي هريرة حين ولاه البحرين.بل كان يأمر عماله إذا قدموا المدينة أن يدخلوها نهارا حتى لا يخفوا شيئا مما يحملونه عن عيون الرعية،(العموري، 2005) و(الوادي،عزام، 2000)، ولقد صرح الفقهاء في سائر الأعصار والأمصار بتحريم الرشوة على عمال الصدقات وإن جاءت في شكل هدايا.(أبويوسف، الخراج، 1979)

التصدي التشريعي لظاهرة الفساد الإداري والمالي في الإسلام

يتناول هذا المطلب البحث في الكيفية التي تمت بها المعالجة التشريعية في المنهج الإسلامي لظاهرة الفساد بكل أشكالها وصورها من خلال البحث في الإطار التشريعي الذي تضمنته جملة النصوص الشرعية التي وردت في الكتاب والسنة  وقواعد الشرعية وإناطة الأحكام بتحقيق المصلحة الشرعية (فرع أول)، وما أقامته من نظام عقابي يطال الفاسدين والمفسدين على حد سواء في العاجل والآجل من أجل محو آثار هذه الظاهرة المدمرة للمجتمعات (فرع ثان).

 

 

تحديد الإطار التشريعي للوقاية من الفساد الإداري والمالي في الإسلام

يتجلى الإطار التشريعي في المنهج الإسلامي للوقاية من الفساد ومكافحته من خلال ترسانة النصوص الشرعية في القرآن والسنة التي شرّعت لأحكام التصدي لظاهرة الفساد على إطلاقها، مشيرة إلى أسبابها وأشكالها، وصفات المفسدين ومظاهر الفساد المتنوعة، وطرق علاجها وما سطرته من قواعد وأحكام شرعية تؤسس لبناء المنهج الإسلامي الرصين في مواجهة هذه الظاهرة الشاذة، حيث سأركز على بيان الموقف العام للشريعة الإسلامية من ظاهرة الفساد والمفسدين، ثم التركيز على وجوب احترام قاعدة الشرعية في إجراء مختلف التصرفات والأعمال الإدارية والمالية في النظام الإداري والمالي الإسلامي استنباطا من النصوص، وعلى ضرورة إجراء هذه الأعمال والتصرفات على مقتضى النظر الشرعي بما يرمي إلى تحقيق الصالح العام ورعاية مصالح وشؤون الأمة المعتبرة في الشرع الحكيم.

الموقف العام للشريعة الإسلامية من الفساد والمفسدين

اتخذت الشريعة الإسلامية منذ البدء موقفا صارما من كل مظاهر الفساد العامة والخاصة على مستوى الفرد أو الجماعة، فجعلت من مفهوم الفساد مفهوما شاملا لكل ما كان نقيضا للصلاح شرعا أو عقلا أو عرفا.فاعتبرت كل جنوح عن تطبيق أحكامها في كل ما يتعلق بالحلال والحرام معصية وإثما، يستحق صاحبه أن يكون من المفسدين وأن يوصف عمله بوصف الفساد، قال تعالى: «فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئۡتُم بِهِ ٱلسِّحۡرُۖ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبۡطِلُهُۥٓ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصۡلِحُ عَمَلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٨١».(سورةيونس،الآية81.) لقد كان التقريع على كل مظاهر الفساد وصوره شديدا في كل باب من أبواب الحياة.ولذلك حاربت الشريعة التبذير باعتباره أحد أهم صور الفساد في طعام الناس وشرابهم وأموالهم في حياتهم الاجتماعية الخاصة لما له من أثار سلبية على الحياة العامة.قال تعالى:« ۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ٣١».(سورةالأعراف،الآية31) وقال: «إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧» (الإسراء،الآية27) كما شددت على منع التلاعب بالمال أو إتلافه أو تبذيره، أو التعامل به بطريق الحرام، قال تعالى: «وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨» (البقرة،الآية188)...ومنعت أيضا تركه في أيدي السفهاء والعابثين ومن يخونون الأمانة، قال أيضا: «وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٥» (سورة النساء،الآية05).

وقد ثبت في السنة المطهرة عزل كل من يتعاطى الرشوة أو الهدايا بمناسبة القيام بالوظيفة العامة، كعقوبة إدارية كما في قصة «ابن اللتبية» مع صدقات بني سليم. وهيأت كل أسباب الوقاية منه والتصدي له بعد وقوعه.وركزت على بناء النظم والمؤسسات بمناهج تكفل خطة التدبير الرشيدة في إدارة الشأن العام واختيار العاملين في الإدارة والدولة وفي كل استخدامات الأموال العامة. وشرعت على كل لون من ألوان الفساد عقوبة تليق به في الدنيا أو الآخرة، وانتدبت لذلك القضاء والحسبة والمظالم لتحقيق الردع المطلوب.لقد كان موقف الشريعة الإسلامية من الفساد بمختلف صوره وفي جميع مستوياته، موقفا حازما صارما يمثل الوقوف ضد الشر والمنكر، ولذلك كان من أهم مبادئها مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.ولا منازع في أن المنكر هو الفساد عينه.

احترام قاعدة الشرعية في إجراء التصرفات والأعمال الإدارية والمالية

إن احترام قاعدة الشرعية في إجراء التصرفات والأعمال الإدارية والمالية، يقتضي خضوع هذه الأخيرة لمبدأ الرقابة والمحاسبة عليها قبليا وبعديا، وأن تكون هذه الأعمال والتصرفات منوطة بتحقيق المصالح الشرعية للأمة.

-إقرار مبدأ الرقابة والمحاسبة على التصرفات والأعمال الإدارية والمالية في التشريع الإسلامي

إذا كانت مختلف الدراسات الفقهية التي تناولت موضوع تسيير الشأن العام واستخدامات الأموال العامة في الدولة الإسلامية تؤِكد على أن الشريعة الإسلامية قد حثت على ممارسة الرقابة والمحاسبة في الوظيفة العامة على كفاءة الأداء والاستخدام الأمثل للموارد والأموال، وضرورة مراعاة الصالح العام، فإنه من الحري بالباحث العودة إلى نصوص القرآن والسنة للوقوف على هذه الحيققة واستجلاء مختلف القواعد والأحكام التي وضعتها لإقرار مبدأ الرقابة والمساءلة والتزام الشفافية والحماية الشرعية للنشاط العام.(العموري، 2005).

-إقرار مبدأ الرقابة والمحاسبة على أفعال التسيير واستخدامات الأموال العامة في القرآن الكريم

أسس التشريع الإسلامي لمبدأ الرقابة والمحاسبة على أفعال التسيير واستخدامات الأموال العامة في الدولة من خلال ما حظي به موضوع المال العام من العناية والاهتمام في نصوص القرآن الكريم التي تظافرت فيما بينها لبيان القواعد والأحكام المتعلقة بطرق كسبه وتحصيله ومجالات إنفاقه وصرفه، ورغبت في مختلف الوسائل المؤدية إلى تنميته وحسن استثماره، وشرَعت مختلف العقود والتصرفات المالية المباحة، والكفيلة بتحقيق الغايات والمقاصد الشرعية المتوخاة منه.(الشاطبي، ب-د-ت) و(الغزالي، ب-د-ت) و(ابن،عاشور، 1978)، كما منعت كل ما يؤدي إلى تبذيره أو التلاعب به أو إنفاقه في وجوه الحرام المختلفة أو تداوله بالمعاملات الممنوعة كالربا والغش والرشوة والاحتكار والسرقة والغصب ونحو ذلك.قال تعالى: «وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨».(سورةالبقرة،الآية188).وقال أيضا:«وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٥».(سورةالنساء،الآية 05). وقد علق عليها الإمام الجصاص بقول لطيف.(الجصاص، ب-د-ت)

ومن النصوص التي وردت في القرآن تحرم الخيانة في المال والغلول فيه، قوله تعالى:«وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١٦١».(سورةآل،عمران،الآية161)، نهت الآية الناس عن الغلول في الغنائم وتوعدت عليه، فلا يجوز أن تقع الخيانة للنبي بالغلول في الغنائم أو من يلي بعده من الحكام وولاة الأمر.(القرطبي، 1958) و(الجصاص، ب-د-ت).والغلول خيانة مالية في أحد موارد خزينة بيت المال، لتؤكد على موضوع الرقابة على المال العام أيا كان مورده، فالخيانة المالية تشمل كل ما يمس بالمال العام كالرشوة والاختلاس والغصب والنهب والهدية للعمال ونحوه مما يلحق بحكم الغلول.

إقرار مبدأ الرقابة والمحاسبة على أفعال التسيير واستخدامات الأموال العامة في السنة النبوية ورد في السنة الشريفة أحاديث عديدة تفيد مشروعية الرقابة والمحاسبة في الإسلام على تسيير الشأن العام واستخدامات الأموال والموارد العمومية، حيث كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمارس هذه الرقابة والمحاسبة بنفسه، ويتصدى لكل مظاهر الانحراف الإداري والفساد المالي، ويكلف من أصحابه من يتولى ذلك. من هذه الأحاديث:

-ما رواه البخار ومسلم عن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رجلا من الأزد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا ما لكم وهذا أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟ ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاّني الله، فيأتي فيقول: هذا ما لكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت».(البخاري، ب-د-ت) و(مسلم، 1971)

مما يستفاد من هذا الحديث:

-أنه حاسب المؤتمن: وهو الوالي الذي كلفه بجمع الزكاة، ليعلم ما قبضه وما صرفه من أموال الزكاة.

-منع العمال من قبول الهدية وبين أن هدايا العمال حرام وغلول لأنه خان في ولايته وأمانته، فسبب تحريم الهدية هو الولاية.

-على العامل رد ما أخذه إلى صاحبه، فإن تعذر فإلى بيت المال.

-في الحديث إبطال لكل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ منه.

2- ما روي عن أبي هريرة أنه قال:«قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيئ يوم القيامة على رقبته شاة ولها ثغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك».(مسلم، 1971)

-في الحديث تغليظ في تحريم الغلول وهو الخيانة مطلقا، فقد تبرأ النبي-صلى الله عليه وسلم- من كل من يفعل ذلك.

-وقع إجماع المسلمين على تحريم الغلول والخيانة لأنها من الكبائر، وأنه يجب على الغال رد ما غله إلى بيت مال المسلمين.

-يجب معاقبة الغال تعزير من قبل الحاكم بما يراه مناسبا لزجره.

يتبن من الحديثين الشريفين الذين مرا معنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد تولى ممارسة المحاسبة والمساءلة على تسيير الشؤون العامة وعلى كل المعاملات المالية التي تتم بمناسبة هذا التسيير، أو على كل ما يرصد لإنجاز المشاريع العامة أو ما يتعلق بالجباية والتحصيل لصالح بيت المال أو ذوي الحاجات، فكان يحاسب عماله على أموال الصدقات التي يجمعونها، ويحذرهم من الغلول والهدايا، ويبين لهم العاقبة الوخيمة لمن يقع فيه في الدنيا والآخرة كما سبق بيانه.

إقرار العقوبات الشرعية على الوقوع في جرائم الفساد الإداري والمالي

تضمنت الشریعة الإسلامیة طرقا عقابیة علاجیة رائدة في مكافحة الفساد الإداري والمالي، والمطلع على الشریعة الإسلامیة وحرصها على مكافحة جرائم الفساد یجد أنها بلغت حدا لم یصل إلیه أي تشریع أخر في العالم قدیما وحدیثا، یظهر ذلك جلیا في ما سمته من عقوبات دنیویة وأخرویة لمرتكبي جرائم الفساد الإداري والمالي. وباستقراء نصوص الشریعة الإسلامیة المتعلقة بالعقوبات المقررة لجرائم الفساد یتبین أن هناك نوعین من العقوبات، عقوبات عامة لجمیع المفاسد وعقوبات منصوص علیها لجرائم بعينها، وكلاهما تشتمل على عقوبات دنیویة وعقوبات أخرویة.

-العقوبات الأخرویة: توعد الإسلام من یقع في جرائم الفساد بجملة من العقوبات في الآخرة من خلال نصوص الآیات القرآنیة التي تحدثت عن الفساد والعقاب الأخروي الوارد فیها.فتارة يكون ذلك بالخلود في النار، وتارة أخرى بالعذاب العظیم والخسران المبین، وسوء العاقبة والحرمان من نعیم الجنة، والغرض من ذلك هو إحداث الردع المطلوب في نفوس الناس والتأثير على سلوك الفرد ليبتعد عن الجریمة والفساد.

-العقوبات الدنیویة: نصت الشریعة الإسلامیة على نوعین من العقوبات:

-عقوبات إلهیة: وهي التي تقوم على ما جرت به سنة الله في الكون مثل: إهلاك الأمم السابقة بسبب فسادها وطغیانها.

-عقوبات تشریعیة: تختص بالفعل الإجرامي من وجهة نظر الشرع وتقع على الجاني إذا انكشف جرمه، وهي ثلاثة أنواع: حدود وقصاص وتعازیر.أي أن منهج الإسلام في تقریر العقوبات یكون من خلال التأدیب بالحدود والتعزيرات لتحقیق ذلك وهي :

العقوبات البدنیة المقررة لجرائم الفساد: الناظر في العقوبات البدنیة المقررة لجرائم الفساد المالي والإداري في الشریعة الإسلامیة یجد أنها تختلف حسب نوع الجریمة الواقعة، فمنها ما یستوجب الحد، ومنها ما یستوجب التعزیر.وتعد التعزيرات البدنیة من العقوبات المقررة لجرائم الفساد المالي والإداري كالاختلاس والاستیلاء والخیانة، والرشوة والغد والنهب والغصب والتزویر والتخریب وغسیل الأموال والتهرب الضریبي والجمركي، وغیر ذلك من المفاسد المالیة التي تقع من الموظف العام، وهي مفوضة إلى ولي الأمر، فله أن یوقع على الجاني من هذه العقوبات مايراه مناسبا.

العقوبات النفسیة -المعنویة- المقررة لجرائم الفساد

وهي تلك العقوبات التي لا تترك أثرا مادیا كالضرب والحبس، ولكن تقتصر على إیلام شعور المجرم، إن كان ذا شعور وإیقاظ ضمیره، فیصلح حاله وتستقیم أمور ومن هذه العقوبات التعزیریة النفسیة الوعظ، والتوبیخ، والتشهیر أي فضح أمر المجرم بشتى وسائل التشهیر الكتابیة والسمعیة والبصریة وغیرها، حتى یحذره الناس ویتجنبوه، والتهدید بالعقوبة والعزل من الوظیفة.

العقوبات المالیة المقررة لجرائم الفساد: وهي العقوبات التي تمس مال الجاني، إما بأخذه أو إتلافه عقوبة لصاحبه.وتتخذ العقوبات المالیة التعزیریة أشكالا مختلفة تتمثل في الغرامة والمصادرة والإتلاف أي ما یعرف قانونا باسترداد الأموال المختلسة.وعلیه یجوز للدولة أن تعاقب كل فاسد بما تراه مناسبا، فمن حقها أن تصادر أموال الرشوة والهدایا الممنوحة بسبب النفوذ والتكسب غیر المشروع، كما أن لها أن تقوم بإتلاف الأموال المزیفة، والسلع المسكرة والمخدّرة كما لها أن تصادر السلع المهربة التي تؤثر سلبا على الإنتاج المحلي، مما یترتب علیه الإضرار بالاقتصاد الوطني.

وأخيرا، فإن العقوبة المقررة لجرائم الفساد المالي والإداري في الشریعة الإسلامیة سواء أكانت عقوبة حدیة –كالقطع، أم عقوبة تعزیریة مالیة -كالغرامة والمصادرة-، أم عقوبة نفسیة-معنویة-كالعزل من الوظیفة، كلها عقوبات شرعیة علاجیة حاسمة وحازمة لمكافحة الجریمة وإصلاح المجتمع.

 

 

دور الوسائل الإدارية والقضائية في التصدي للفساد في النظام الإسلامي

يتطرق هذا المبحث لمختلف الوسائل الإدارية لمكافحة الفساد في النظام الإسلامي (مطلب أول)، ولمختلف الأجهزة الإدارية والقضائية المستقلة والمختصة بالتصدي للفساد في النظام الإسلامي (مطلب ثان).

الوسائل الإدارية لمكافحة الفساد في النظام الإسلامي

نتناول في هذا المطلب وسائل السلطة العامة في التصدي للفساد الإداري (فرع أول). ثم نتعرض للكشف عن دورالدواوين التنفيذية في الدولة الإسلامية في الوقاية من الفساد الإداري والمالي ومكافحته.

وسائل السلطة العامة في التصدي للفساد الإداري

تعددت درجات السلطة العامة في الدولة الإسلامية في التصدي للفساد الإداري والمالي أو ما كان يعرف بولاة الأمور بدءا بالخلفاء ومرورا بالوزراء وانتهاء بالولاة أو عمال الأقاليم.

دور الخلفاء في التصدي للفساد الإداري في الدولة

كان الخلفاء في الدولة الإسلامية يقومون بدور مهم في التصدي لكل أنواع الفساد، وبخاصة في إدارة الدولة مركزيا وإقليميا، وذلك بموجب سلطتهم العليا التي كانوا يمارسونها على الأمة.وكان يساعدهم الوزراء والولاة في كثير من الأحيان في أعمال الرقابة ومكافحة الفساد، والتي كانت في بعض الأحيان تمثل صميم اختصاصات الوزير باعتباره قائما على تدبير شؤون الدولة نيابة عن الخليفة. وكذلك الولاة الذين يتولون هذا الدور على مستوى أقاليمهم ونواحيهم، وهو ما يشبه دور رؤساء الجماعات الإقليمية اليوم من الولاة ورؤساء البلديات.(الكفراوي، 2004)

المحاسبة الذاتية للخلفاء

كان الخلفاء الراشدون يراقبون الله في أموال المسلمين فيرعونها حق رعايتها ويزهدون عنها، ويتجنبون كل أثرة فيها لهم أو لذويهم.فهذا أبو بكر الخليفة الأول لرسول الله لما انقطع عن التجارة وتفرغ لأمور المسلمين كان ينفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، فكان الذي فرض له كل سنة ستة آلاف درهم.فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا، وإن أرضي التي بمكان كذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر.ولماا سئل عمر عما يستحله لنفسه من بيت مال المسلمين قال: يحل لي حلتان حلة في الشتاء وحلة في القيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهور، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم.(الطماوى، 1969)

وسائل الخليفة في التصدي للفساد الإداري والمحافظة على المال العام

كان من اختصاصات الخليفة في هذا المجال ما يلي:

-وضع السياسة المالية للدولة عن طريق تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال وكذا تحصيل الإيرادات وإنفاقها وفقا لما تقضي به الشريعة الإسلامية.

-وجوب اختيار الأصلح لولاية أمور الدولة وقضايا الأموال العامة، إذ لا تقتصر مهمة الخليفة في رقابته على أعمال الدولة وأموالها على مراعاة الحقوق، وعدم التمييز بين الرعية في هذه الأعمال والأموال.

-متابعة تحديد سلطات العامل واختصاصاته.

-تحذير الولاة والعمال من ظلم الناس في أنفسهم وأعراضهم أو أموالهم وحقوقهم، وتوجيه العمال عند تعينهم ومراقبهم طوال فترة عملهم. ومحاسبتهم على ذلك إذا شكاهم الناس، كما حصل مع عمر بن العاص حين شكاه القبطي إلى عمر بن الخطاب.

-منع العامل أو من يلوذ به من استغلال منصبه أو نفوذه لفائدة أو مصلحة خاصة به، حيث ابتدع الخليفة عمر نظام مقاسمة أو مشاطر الأموال التي جمعها ولاته أثناء عهدتهم مع بيت المال أو مع غيرهم ممن يبعثهم إليهم.(الكفراوي، 2006)

-تحديد مدة ولاية العامل وعدم تركه في ولايته زمنا طويلا.

-إذا تم عزل عامل من منصبه يطلب إليه أن يقدم بيانا مفصلا عن شؤون ولايته.

-رفع الحساب من ولاة الأقاليم إلى الخليفة، من ذلك ما قرره معاوية بن أبي سفيان بعد تزوير أمر الصرف الصادر عنه على خزينة الإقليم

-فتح عملية التحقيق الدقيقة والنهائية بعد نهاية ولاية العامل، ففي عهد عبد الملك بن مروان كان يعمل معهم تحقيقا دقيقا عند اعتزالهم.

-تقديم تقارير دورية عن ثروة الشعب وحالة البلاد من قبل الولاة والعمال على الأقاليم التي يلونها، كما فعل عمر مع واليه على مصر، وكما كان عليه الشأن في العهد العباسي، فقد شدد أبو جعفر المنصور الرقابة على جباة الأموال حتى لا يظلموا الناس أو يستأثروا بأموال الدولة.(الكفراوي، 2006)

دور الوزراء في التصدي للفساد الإداري والمالي في الدولة

ظهرت دور الوزير كممثل للسلطة التنفيذية في العصر العباسي الذي تقررت فيه قوانين الوزارة، وكان الوزير لهذا العهد هو ساعد الخليفة الأيمن، يقضى باسمه في جميع شؤون الدولة، ويتصدى لكل فساد في دوائر الدولة، وكان له الحق في تعيين العمال وعزلهم والإشراف على تحصيل الضرائب، ومراقبة موارد الدولة ومصارفها.(أبويوسف، 1979)

يمكن التمييز من حيث سلطات الوزراء واختصاصاتهم بين نوعين من الوزراء: الوزير المفوض والوزير المنفذ.

الوزير المفوض

وهو أن يعهد الخليفة بالوزارة إلى رجل يفوض إليه النظر في أمور الدولة والتصرف في شؤونها دون الرجوع إليه. حيث لا يبقى للخليفة بعد ذلك إلا ولاية العهد وسلطة عزل من يوليهم الوزير.(الماوردي، 2006) و(ابن،خلدون، 2001)

وقد تكلم الماوردي عن سلطة وزارة التفويض بأنه: يجوز للوزير أن يحكم بنفسه وأن يقلد الحكام كما يجوز ذلك للإمام.ويجوز له أن ينظر في المظالم. ويجوز له أن يباشر تنفيذ الأمور التي دبرها فإن كل ما يصح من الإمام يصح من الوزير إلا ثلاثة أشياء هي: ولاية العهد، وأن يستعفى الأمة من الإمامة، وأن للإمام أن يعزل ما قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل ما قلده الإمام.(الماوردي، 2006).

الوزير المنفذ

وزارة التنفيذ هي التي تكون فيها مهمة الوزير تنفيذ أوامر الخليفة وتعليماته وعدم التصرف في شؤون الدولة من تلقاء نفسه، بل كان يعرض أمور الدولة على الخليفة ويتلقى أوامره وتعليماته بشأنها.

 فهو في هذا كما يقول الماوردي:«معين في تنفيذ الأمور، وليس بوال عليها ولا مقلد لها، فهو ليس سوى واسطة بين الخليفة والرعية».(الماوردي، 2006)

مهام الوزارة الرقابية

ليس لمتولي وزارة التنفيذ سلطان مستقل عن الخليفة في مجال مكافحة الفساد، فمهمته تقتصر على تنفيذ أوامر الخليفة وتعليماته وعدم التصرف في شؤون الدولة من تلقاء نفسه.أما وزارة التفويض فيجوز لمتوليها أن يباشر الحكم وأن يأمر بتحصيل ما يستحق لبيت المال ويدفع ما يجب فيه، كما يجوز له النظر في المظالم والقيام بكافة ما يقوم به الخليفة من أعمال رقابية وردعية،(صبحي،الصالح، ب-د-ت)، فالوزير المفوض هو المشرف على أعمال الدولة وينسق بين دواوينها ومصالحها المختلفة فهو أعلى سلطة تنفيذية بعد الخليفة يشارك في وضع السياسة العامة، ويراقب تنفيذها في مختلف أوجه النشاط الإداري والمالي في الدولة الإسلامية.(الكفراوي، 2006).

نستخلص مما تقدم أن الوزراء في الدولة الإسلامية كانوا يراقبون تحصيل الأموال العامة وكيفية إنفاقها، ويرفعون نتائج الأعمال إلى الخليفة وكانوا يساعدونه في ضبط موارد الدولة ونفقاتها وأعمال الدواوين المختلفة، ينصفون المظلوم ويعطون كل ذي حق حقه، ويتصدون لكل مظاهر الفساد في مختلف دوائر الدولة.

دور الولاة في التصدي للفساد الإداري في الدولة

أدى اتساع رقعة الدولة وامتداد سلطانها إلى أقاليم بعيدة إلى تعذر ممارسة الرقابة على أعمال الدولة من قبل الخليفة وعدم قدرته على القيام بهذه الأعباء وحده حتى قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- «وددت لو أقيم في كل بلد أربعة أشهر...» إن هذا الواقع الجديد فرض على الخلفاء تفويض بعض صلاحياتهم في إدارة أعمال الدولة وأنشطتها المالية، ومتابعة التنفيذ وممارسة الرقابة على الشأن العام وعلى استخدامات الأموال العامة على مستوى الأقاليم للعمال والموظفين الملحقين بها.

وفي الأخير فإن الخليفة هو من يولى بنفسه القيام بالرقابة على التحصيل والإنفاق، فيراقب المتولين لشؤون الأموال العامة بعد أن يحسن اختيارهم ويوضح لهم سياسته المالية.من خلال التأكيد على مبدأين هامين هما:

-معاقبة من يحيد عن الحق، ويظلم الناس حتى يرتدع الظالم عن معاودة الظلم والتعدي، ويتبين أن الغرض الاجتماعي من العقوبة هو إصلاح الأفراد وحماية الجماعة وصيانة نظمها، والتصدي لكل مظاهر الفساد.

-الأخذ بنظام الحوافز لتشجيع العاملين على تأدية الأعمال الموكلة إليهم على الوجه الأكمل، وهو مبدأ لم تعرفه الإدارة العامة والإدارية المالية إلا حديثا.(أبويوسف، 1979).

يستخلص مما سبق أن الرقابة على الشأن العام التي كان يباشرها الخلفاء على عمالهم تعتمد على ثلاثة مقومات رئيسة هي:

المقوم الأول: حسن اختيار العمال لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وفي ذلك يقول الماوردي:»...أن للخليفة تقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله من الأموال، لتكون الأعمال بالأكفاء مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة».(الماوردي، 2006)

المقوم الثاني: وهو عنصر التوجيه والإرشاد والذي تتضمنه كتب التعيين ابتداء، وهو نوع من الرقابة الإدارية السابقة على مباشرة العامل لأعمال وظيفته، ويشبه في الوقت الحاضر وضع الخطط والدراسات التدريبية للموظفين وأجهزة الإدارة وهيئات الرقابة، تقوم بتدريب العاملين بها قبل أن يتسلموا مناصبهم.كما يتضمن هذا العنصر أيضا ما يصدر من الخليفة من توجيه وإرشاد للعاملين لمعالجة بعض الأمور المحددة.

المقوم الثالث: يتمثل هذا العنصر في عملية الرقابة على أعمال الموظفين، ويهدف إلى التحقق من مدى مطابقة ما يقومون به من أعمال للشروط والأوضاع المقررة. فقد كان الخلفاء يراقبون المتولين للأموال العامة بمطالبتهم برفع الحسابات إليهم. كما اتبعوا في ذلك وسائل كثيرة منها إرسال المفتشين، وإرسال التقارير الدورية، واتباع أسلوب المقارنة والتقييم، ومعاقبة المخطئ عقابا رادعا له مانعا لغيره، ومكافأة العامل الممتاز على حسن إخلاصه للعمل.(الكفراوي، 2006).

دورالدواوين التنفيذية في الوقاية من الفساد الإداري والمالي في الدولة

 لقد كان للدواوين الإدارية التابعة للسلطة التنفيذية دور أساسي ومهم في التصدي لمظاهر الفساد الإداري والمالي في الدولة الإسلامية إذ كانت تمثل أجهزة وأطرا إدارية محكمة ضمن تراتيب الإدارة الإسلامية، ومعلما أساسيا من معالم المنهج الإسلامي الرصين في مواجهة الانحراف والفساد بما أوكل لها من اختصاصات ومهام إدارية ومالية ورقابية، تضع كل شيء في نصابة، ولاتسمح بالزلل أوالتلاعب في تدبير الشأن العام.

أهمية إنشاء الدوواين في الدولة الإسلامية: أضحت الحاجة الإدارية ماسة وشديدة إلى وجود الدوواين التنفيذية في الدولة الإسلامية، نظرا للتطور الكبير الذي مس الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين بعد توسع رقعة البلاد الإسلامية بسبب الفتوحات العظيمة التي شهدها عصر الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، وبعد دخول أخلاط من الناس في الإسلام، وانتشار المال وقيام الحاجة إلى كيفة استخدامه وتوزيعه على الناس بما يضمن العدل في التوزيع والعطاء، والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات.ما دعا الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى ضرورة استحداث هذه الدواوين المهمة التي عليها قوام الحياة الإدارية في الدولة الإسلامية الناشئة، بدء بديوان بيت المال. لقد كان هدف الخليفة بصفته الرئيس الإداري الأعلى في الدولة من وضع الديوان هو تنظيم الأموال العامة وتحقيق الرقابة عليها لما كثرت إيرادات وموارد الدولة، ليتجنب كل مظاهر التبذير والإسراف والتلاعب بها، والوقاية من الوقوع في الفساد المالي والإداري. فرأى أن يتولى توزيع هذه الأموال وفقا لسياسة مالية معينة، مراعيا في ذلك الرجل وبلاءه في الإسلام، ووالرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناه، والرجل وحاجته، فكان لزاما أن يضع الديوان لمراقبة إيرادات الدولة وكيفية تحصيلها وإنفاقها.(ابن،تيمية، 1988-ب-).

أمثلة عند دور الدووين التنفيذية في الوقاية من الفساد الإداري

كثرت الدواوين الإدارية في الدولة الإسلامية حتى بلغت العشرات، وفقا لما اقتضته الحاجة والمصلحة بعد التطور المتسارع الذي شهدته العصور الحضارية الإسلامية في كل مستويات الحياة آننئذ. سنتناول منها بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر، لنبين كيف كانت تقوم بدورها في الوقاية من كل مظاهر الفساد وحماية المال العام للأمة، وتدبيره على مقتضى النظر الشرعي والمصلحة العامة للمسلمين في ذلك الوقت. منها ديوان بيت المال، وديوان النظر لشهرتها وعلاقتها بموضوع بحثنا.

ديوان بيت المال

أهمية ديوان بيت المال

كان الغرض من إنشاء ديوان بيت المال هو ضبط الإيرادات والنفقات في الدولة الإسلامية يومئذ، ومحاسبة القائمين على شؤون هذه الأموال. وكان للديوان فروع في مختلف الأقاليم التابعة للدولة الإسلامية، فهو أشبه ما يكون اليوم بوزارة المالية أو الخزينة العمومية، ويشتمل على مختلف حقوق للمسلميين.أين يتولى صاحب بيت المال محاسبة أصحاب الدواوين الأخرى على إجمالي إيراداتهم وما يقومون بجبايته من أموال، ويحاسبهم على النفقات التي جرت في دواوينهم بوسائل وإجراءات إدارية ورقابية وتفتيشية،(قدامة،بن،جعفر، 1981) و(شحاتة، ب-د-ت)نتناولها في ما يلي:

وسائل بيت المال في مراقبة المالية العامة للدولة والوقاية من الفساد

تعددّت وسائل بيت المال التي كان يراقب بها أموال الدخل والخرج، لإحكام الرقابة وتدقيق الحسابات بنحولم تعرفه الإدارة المالية الحديثة إلا في وقت متأخر نتناولهاعلى النحو الآتي:

-قيد أوامر الصادرات وتحصيل الإيرادات: إن جميع أوامر الصرف الصادرة من ولي الأمر تقيد في ديوان بيت المال قبل أن ترسل إلى الديوان المختص بالصرف، وكذلك الشأنبالنسبة للإيرادات المحصلة إذ تقيد قبل نفاذها.

-تأشيرة القيد: لصاحب بيت المال تأشيرة وعلامة يضعها على الكتب والصكاك والإطلاقات يتفقدها ولي الأمر-سواء كان الخليفة أو الوزير-، يراعونها ويطالبون بها إذا لم يجدوها حتى لا يخطئ أصحابها والمديرون لهذا الديوان، فيختل أمره ولا يتكامل العمل فيه.إن هذه العلامة أشبه ما تكون اليوم بالخاتم الرسمي، إذ لا يتم إخراج أي مستند وصرفه إلا بعد ختمه بعلامة خاصة للاطمئنان على أنها قيدت بديوان بيت المال تجنبا للتزوير والاختلاس.

اعتماد المستندات قبل الصرف: لا يتم صرف أي مبلغ من بيت المال إلا مقابل مستندات معتمدة من ذوي الشأن، وتحفظ كمستند دال على صحة الصرف، حيث كان كتاب الأموال يدونون ذلك في نماذج لا يكاد يسجل فيها تغيير ولا نقص ولا زيادة.(القلقشندي، 1987)

مراقبة وضبط الإيرادات: كان مسؤول بيت المال إذا جاءته الأموال من أحد البلدان، يقوم بتدوينها وتقييدها ونقلها من المستندات الواردة إلى دفاتر الإيرادات في بيت المال لإثبات ما وصله من الأموال لحفظها من الضياع أو التلاعب، ثم يتولى تسجيلها في سجلات بيت المال وكتابة مخالصة بذلك، ويتم القيد أو الشطب من واقع ما استلم من الإيرادات، وتحفظ هذه الدفاتر لكل بلد على أنها المستندات التي تثبت الإيرادات وتقيد المقبوضات في كتاب المياومة.(یوسف،ریان، 1993)

-مراقبة المصروفات وضبطها: يقوم ديوان بيت المال بضبط المصروفات من خلال الاحتفاظ بسجلات تفصيلية بأسماء المستحقين وأصحاب الرواتب والأجور، حيث يتم تسجيل كل ما يدفع لهم في سجلات خاصة بمقابلة اسم كل مستحق أو جهة. كما تدون توقيعاتهم بما أخذوا. ويتولى بيت المال الاحتفاظ بهذه السجلات، وجميع الإيصالات الخاصة بالمصروفات كمستندات تقيد في سجل المصروفات في تعليق المياومة.(یوسف،ریان، 1993).

-مراقبة مخازن الغلال وضبطها: يقوم أمين مخازن الغلال بضبط الكميات الواصلة والمنصرفة في شتى الأصناف، فيضع جريدة تحوي أسماء النواحي المختلفة التي تصل منها الغلال إلى المخازن. فإذا جاءته رسالة من تلك المناطق والجهات، وضعها تحت اسم الجهة وقيد ما وصل منها في سجل خاص بها ، فإن كانت الكميات الواصلة مطابقة للرسالة كتب لتلك الجهة صكا بصحتها، وإذا نقص طالب بالنقص.(لاشین، 1977)

-رفع تقرير سنوي عن الميزانية: يلتزم كاتب الديوان برفع تقرير سنوي عن الميزانية، مسجلا ما ينتابها من ارتفاع أو انخفاض ببيان جملة الإيرادات مخصوما منها المصروفات عن سنة كاملة، فيسجل الناتج إما عجزا في الميزنية وإما فائضا.إن الهدف من هذا العمل هوتجنب العجز وبيان أسبابه لتلافيها، ولزيادة الإنتاج وإحكام الرقابة على الميزانية العامة في الدولة.(لاشين، 1966)     

-رفع كشوف تفصيلية عن كل ثلاث سنوات: حيث يُذكر في الكشوف أسماء النواحي العامرة والغامرة والفدن العاطلة، ويذكر البذار والريع. ثم يذكر المتحصل منها في ثلاث سنين لثلاث غلات، ولا يُخل بشيء مما في كل ناحية من الحقوق الديوانية والإقطاعية. ويعقد في صدر الكشف جملة على عدة النواحي وعدة الفُدُن، حيث تمكّن هذه الكشوف متولي المراجعة من معرفة ما يستجد في الأقاليم والنواحي المختلفة من إيرادات ومن أراض جديدة تم استصلاحها، ولم تكن ذات أصل في الديوان. وكذلك بيان النقص في الإيراد وأسبابه لتجنبه، ولبيان أسباب الزيادة وكيفيات الأخذ بها، ما يجعل أمر معرفة الأموال التي لم تدفع أو التي سرقت أمرا سهلا ميسورا على صاحب الديوان بعد مطابقة كل ذلك مع أرصدتها في الديوان.(لاشين، 1966) و(الكفراوي، 2006).

ديوان النظر(السلطنة أو المكاتبات والمراجعات)

يتولى ديوان النظر أعمالا إدارية ورقابية هامة تعمل على الحيلولة دون الوقوع في الفساد الإداري أو المالي، موزعة على أريعة أقسام كالتالي:

-قسم يختص بالجيش من إثبات الجند وتعينهم ومقدار عطائهم وميعاد ذلك، فهذا القسم فيه جرد كامل لأسماء الجند والنفقات الخاصة بهم وآجال دفعها. فهو يشبه اليوم ميزانية وزارة الدفاع والقوات المسلحة في كل دولة.(الماوردي، 2006) و(الكفراوي، 2006)

-قسم يختص بالأعمال من رسوم وحقوق ويشتمل على ستة فصول:

-تحديد طبيعة الأعمال وما يميزها عن غيرها وتفصيل نواحيه التي تختلف أحكامها، فيجعل لكل بلد حدا لا يشاركه فيه غيره.

-ذكر حال البلد هل فتح عنوة أوصلحا، وما استقر عليه حكم أرضه من عشر أو خراج، وهل اختلفت احكام نواحيه أو تساوت.

-أحكام خراجه ومااستقر على مسائحه، هل هو مقاسمته أو هو رزق مقدر على خراجه.

-تسمية أهل الذمة من كل بلد، وما استقر عليهم حالهم في عقد الجزية.

-حصر أجناس المعادن وعددها ومقاديرها في كل بلد ليستوفى حق المعدن منها.

-إثبات الموانئ والمناطق الجمركية المتاخمة لدار الحرب والضرائب التي تؤخذ على أموال دار الحرب ومقدارها.(ابراهيم، ب-د-ت)

يوضح هذا القسم ماكان يوجد في الدولة الاسلامية من تقسيم إداري للبلدان والنواحي حتى لاتختلط الأعمال وتحدد السلطات والمسؤوليات، كما يوضح أنه كانت توجد سجلات لحصر كافة الايرادات في الدولة وبيان مقاديرها وأنواعها والأحكام الخاصة بتحصيلها، وذلك طبقا للنظم المتبعة اليوم في الدول الحديثة لحصر وتقدير إيراداتها.كما أن هذه السجلات لها أكبر الفائدة في رقابة تحصيل هذه الايرادات ويمكن بواسطتها معرفة الانحرافات المالية والأسباب التي أدت إليها، واكتشاف مظان الفساد ومواطنه ومسالكه.

-قسم يتناول النظام القانوني والأوضاع الإدارية للعمال، من تقليد وعزل وترقية وتحويل ونحوها، أوما يعرف اليوم بالتعين وإنهاء المهام، أي النظام القانوني للوظيفة العمومية أو الخدمة المدنية في الدولة الإسلامية.ويتضمن مايأتي:

-تسجيل وإثبات حميع أسماءعمال الدولة وقررات تعيينهم.

-بيان نوع عمل كل منهم وتحديد مهام ومسؤوليات كل عامل في الدولة.

-تبيان طبيعة مدة التعين إن كانت محدودة أو غير محدودة.

-بيان مقدار ومواعيد المستحقات المالية للعمال من أجور ورواتب وتعويضات.

إن ما يمكن استخلاصه مما سبق أن هذا القسم من ديوان النظر( المكاتبات والمراجعات) كان يمثل سجلاعاما وشاملا لشؤون العاملين والموظفين بالدولة يتم من خلاله:

-مراجعة قيمة المبالغ التي صرفت إليهم والتي تقاضوها مقابل ما أدوا من أعمال في الدولة.

-مراقبة المهام التي يتولونها وتحميلهم المسؤولية عن نتائج أعمالهم.

-قسم: يتناول هذا القسم ما يدخل إلى بيت المال وما يخرج منه، أي جانب الإيرادات وجانب النفقات حيث يشمل:

-كل ما استحقه المسلمون من دون تعيين لمالكه بصفة خاصة، فهذا من حقوق بيت المال.فإذا تم قبضه صار بالقبض مضافا إلى حقوق بيت المال سواء أحرزه بيت المال أو لم يحرزه اعتبارا بالجهة والمكان، أي أنه يسجل في بيت المال الايرادات التي وصلته فعلا، كما يضاف اليها الايرادات التي قبضت في أي إقليم وتم انفاقها في مصالح المسلمين.

-كل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال، فإذا صرف في جهته صار مضافا إلى الخراج من بيت المال سواء خرج من حرزه أو لم يخرج، لأن ماصار إلى عمال المسلمين أو خرج من أيديهم فحكم بيت المال جار عليه في دخله إليه وخرجه.(إبراهيم، ب - د - ت)

اختصاص الأجهزة الإدارية والقضائية المستقلة بالتصدي للفساد في النظام الإسلامي

أقرّ الإسلام جملة من القواعد والأحكام الشرعية يتم الغرض منها تتبع مسار رعاية مصالح الأمة العامة والخاصة وحماية النظام الشرعي العام فيها حفاظا على كيان الأمة ومواجهة كل مظاهر الفساد التي تتهددها، فمتى وقع الإخلال بهذه القواعد والأحكام عن طريق أجهزة إدارية ضبطية تشبه القضاء منها نظام الحسبة  الذي سنتناوله بالدراسة في الفرع التالي:

نظام الحسبة

سأركز في دراسة نظام الحسبة في الإسلام على النواحي التي تتعلق بمكافحة الفساد الإداري والمالي في الأمة، ومراقبة موارد الدولة وأوجه الإنفاق العام، ومحاسبة موظفي الدولة على التصرفات المالية التي يقومون بها ضمانا لشرعية تصرفات الدولة، ومحافظة على الأموال العامة من كل ألوان التبذير والفساد.

-مفهوم نظام الحسبة: الحسبة دائرة مستقلة عن بيت المال، تتولى وظيفة رقابة الأسواق وتعاملات الناس المالية وتبادل السلع والأغراض ورقابة نظافة الأماكن العامة والطرق...، ومنع أصحاب السلع والبضائع من تحميل العمال والمأجورين فوق طاقتهم، وهدم الأبنية الآيلة للسقوط ونحو ذلك.فهي بصورة عامة تتولى مجابهة كل أخطار الفساد الاجتماعي والإداري، إن على مستوى الأفراد   وإن على مستوى الهيئات.

-نشأة الحسبة وتطورها: بدأت المحاسبة على المال العام ومكافحة الفساد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث تولاها بنفسه، وقلدها غيره، فكان يستوفي الحساب على عماله، يحاسبهم على المستخرج والمصروف.وحين استقر أمر الدولة في عهد خلفائه -رضي الله عنه- وأنشئت الدواوين، واستقر أمر بيت المال باعتباره الخزينة العامة لأموال الدولة، تبلورت فكرة المحاسبة على جباية المال العام وإنفاقه في ظهور ولاية الحسبة.فكانوا أعظم المحتسبين الذين عرفهم الإسلام. ولقد كانوا في بادئ الأمر يتفرغون للحسبة بأنفسهم، فلما توسعت أعباء الخلافة صار يعهد بأمر الحسبة إلى وال خاص يدعى ناظر الحسبة.(ابن،خلدون، 2001)

-اختصاصات ناظر الحسبة:

-للمحتسب أن يراقب المرافق العامة للدولة التي لا غنى عنها لجماعة المسلمين، فيعمل على صيانتها وتوفير الموارد المالية اللازمة من بيت مال المسلمين، وإذا لم يكن فيه ما يكفي لذلك ألزم القادرين من الأغنياء بهذا الإنفاق الضروري.

فعلى الأساس السابق للمحتسب أن يجمع الأموال في الحالتين الآتيتين:

الإنفاق على صيانة المرافق العامة الضرورية إذا لم يكن في بيت المال ما يكفي من الأموال لهذا الغرض.

إعانة بني السبيل إذ لم يكن هناك في بيت المال نصيب يفي هذا الغرض.

-يجب على المحتسب أن يراقب تحصيل إيرادات الدولة: فإذا وصل إلى علمه أن قوما يمنعون إخراج نصيب الدولة في أموالهم أو يتهربوا من الدفع بإخفاء أموالهم الباطنة، أو يتجنبوا دفع الزكاة بوسائل ملتوية، فإن لوالي الحسبة أن يحصل منهم هذه الإيرادات جبرا.

-على والي الحسبة أن يحول دون إنفاق الأموال العامة في غير الأبواب المخصصة لها شرعا: فيكشف ما قد يكون من إسراف أو بذخ من جانب القائمين على هذا الإنفاق، وكل هذا من بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.فوالي الحسبة كما نرى يحول دون إنفاق موارد الدولة الإسلامية إلا في الوجوه المخصصة لها، ويعمل على تحصيل هذه الموارد كاملة غير منقوصة.كما كان المحتسب يقوم بمراقبة الحالة الاقتصادية، وكان يحق له أن يتدخل في الشؤون الاقتصادية إذا أدت الحرية الفردية إلى الإخلال بمصالح المجتمع كالاحتكار والربا، أو اختلال الأسعار في السوق وجودة السلع وما إلى ذلك.(الماوردي، 2006) و(الكفراوي، 2006)، رغم هذا لم تكتف الدولة الإسلامية يومئذ بنظام الحسبة وحده كنظام إداري ضبطي، بل تعدته إلى إيجاد نظم أخرى أكثر فاعلية في مكافحة الفساد والتصدي له مثل ديوان المظالم الذي سنتعرض له بالدراسة في الفرع التالي.

دور القضاء الإسلامي-المظالم-في مكافحة الفساد الإداري والمالي

فضلا عن وجود القضاء العادي الذي كان يفصل في الخصومات التي تقع بين الأفراد، ويمثل الإطار العام للنظام القضائي في الإسلام، فقد استحدثت الدولة الإسلامية جهازا قضائيا آخر، يشبه القضاء الإداري في هذا العصر، من بين صلاحياته أن يقوم بوظيفة الرقابة على المال العام وكيفية إدارته، ومكافحة الفساد المالي والإداري ألا وهو قضاء المظالم الذي كان يقوم بدور مهم في التصدي للفساد الإداري ومحاسبة العمال والموظفين في مختلف الدوائر الحكومية، معرجا على تعريف المظالم ونشأتها وتطورها، ثم اختصاصات قضاء المظالم في مكافحة الفساد.

مفهوم قضاء المظالم

يتناول هذا الفرع تعريف المظالم (أولا)، ونشأة المظالم (ثانيا)

تعريف المظالم

فالنظر في المظالم في الدولة الإسلامية كان بجانب القضاء يحكم فيما يعجز القضاة عن الحكم فيه، وهي وظيفة أوسع من وظيفة القاضي وأعلى منها.وهو يقابل اليوم ما يعرف بالقضاء الإداري.

نشأة المظالم وتطورها

عرفت الدولة الإسلامية قضاء المظالم منذ عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-، حيث باشرها بنفسه، وعمل به الخلفاء الراشدون، فجلسوا للنظر في المظالم دون أن يفردوا لذلك يوما معلوما، ودون أن يكون لمجالستهم هيئة معينة.(الماوردي، 2006) و(ابراهيم، ب-د-ت)       

اختصاصات قضاء المظالم في مكافحة الفساد

تنقسم اختصاصات قضاء المظالم إلى نوعين من الاختصاصات: الأول منها يتولاها قضاء المظالم من تلقاء نفسه بغير حاجة إلى تظلم يرفع إليه، والثاني ينظر فيه بناء على ما يقدم إليه من تظلمات ذوي الشأن.

التصدي للفساد تلقائيا (دون تظلم)

يتدخل قضاء المظالم لمواجهة الفساد وتبذير المال العام من غير حاجة إلى تظلم من أحد، أو طلب يرفع إليه، حينما يتعلق الأمر بالصالح العام ولا يتوقف النظر فيها على متظلم، فيقتضي الأمر من والي المظالم أن ينظرها ويقوم بها دون انتظار دعوى أو شكوى، وإلا فسدت أحوال البلاد والعباد، أي ما يتعلق بالنظام العام بتعبير أهل القانون اليوم، نذكرها فيما يلي:

-النظر فيما يتقاضاه العمال من أجور وما يقومون بجمعه من أموال الجباية والخراج والزكاة، سيما إذا تظلم منهم العامة في الأمصار، وذلك ما يشبه اختصاص القضاء الإداري في مجال المنازعات الضريبية.وهو في هذا ينظر إلى ثلاث نواح يقرر فيها الحق:

-في طريق التحصيل، فيتحرى أن تكون بدون ظلم أو تعد.

-في مقدار الأموال المحصلة، إن كانت قد تجاوزت مقاديرها فيردها إلى المقدار المعقول الذي لا يرهق أحدا، فإذا فرض عمال الخراج على الأرض مالا تطيقه، خفض قيمة هذا الخراج إلى المقدار المعقول.

-النظر فيما ما يأخذه العمال لأنفسهم ظلما، فإذا تبين وجه الحق فيه رد ما أخذ بالباطل إلى صاحبه، ويعاقب العامل الظالم عقاب الرشوة.فالناظر في المظالم عليه أن يتأكد من أن الإيرادات تحصل طبقا للقواعد الشرعية المعمول بها فما زاد بالتحصيل رد إلى أصحابه، سواء استحق الزائد إلى بيت المال، أم أخذه الجباة لأنفسهم بدون وجه حق، فيسترجعه منهم لأصحابه.

-مراجعة ما يثبته كتاب الدواوين المالية من إيرادات ونفقات ليتأكد من أن الإيرادات قد أضيفت، وقيدت بالدفاتر دون نقص، ومطابقة ذلك على القوانين المعمول بها، وأن النفقات أثبتت وفقا لما تم إنفاقه فعلا.بمعنى أن ما كان يقوم به ناظر المظالم يشبه إلى حد كبير المراجعة المستندية التقليدية التي تقوم بها محاكم ودواوين الحاسبات في عصرنا هذا.(الكفراوي، 2006)

-النظر في حسن تأدية القائمين على الشؤون المالية لأعمالهم والواجبات المطلوبة منهم، فمن ثبت تقصيره أو خيانته عزله من منصبه واستبدله بغيره، فالعمال هم قوام الدولة وبصلاحهم تصلح الشؤون العامة بالدولة وبفسادهم تفسد الدولة.في سبيل ذلك يراقب كتاب الدواوين المالية، ويطبق قانون من أين لك هذا على عمال الحكومة وجباة بيت المال...، وإذا ظهر عليهم مظاهر الغنى دون أن يعرف لثرائهم مصدر، كان ذلك دليلا على خيانتهم، فيجوز عزلهم ومصادرة أموالهم ما لم يثبتوا لها مصدرا.

-تصفح الأوقاف العامة، ليتأكد من أن ريعها يجري وفقا لشروط واقفيها، فيقوم بمراجعة أموال الأوقاف العامة، وكيفية التصرف في إيراداتها، للتأكد من أنها حصلت وفقا للقواعد المقررة، ومن أنها صرفت في الأغراض المخصصة لها.

-رد الغصوب السلطانية وغصوب الأقوياء، وأصحاب النفوذ والجاه إلى أصحابها والتي أخذت منهم على غير مقتضى الشرع للدولة، أو لأصحاب النفوذ والجاه، كالأملاك المقبوضة عن أربابها إما رغبة فيها وإما تعديا على أهلها.

التصدي للفساد بناء على تظلم أو شكوى(الماوردي، 2006)

أما النوع الثاني من اختصاصات قضاء المظالم، فهي تلقي تلك التظلمات التي ينظر فيها بناء على ما يقدم إليه من ظلامات وشكاوى، على النحو الآتي:

-إذا تظلم من نقصت أرزاقهم أو تأخرت عنهم، فعلى والي المظالم أن يرجع في ذلك إلى ديوان فرض العطاء، فيجريه عليهم وينظر فيما انتقصوه أو منعوه من قبل، فإن كان قد أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم، وإن لم يأخذوه تقاضاه من بيت المال. فوالي المظالم هنا يقوم عندما ترفع إليه شكاوى في هذا الشأن بمثل ما يقوم به مجلس المحاسبة اليوم من مراجعات للقرارات الخاصة بشؤون العاملين، كحساب المعاش والضمان الاجتماعي، للتثبت من مطابقتها للقوانين اللوائح والقرارات المعمول بها.

-يقوم والي المظالم حينما ترد إليه الظلمات برد الأموال العامة التي اغتصبت، سواء اغتصبها الولاة أو الحكام أو الأفراد بغير حق، كما يرد للعامة ما اغتصب منهم من أموال. فقد كان والي المظالم يرد الأموال التي تغلب عليها الأقوياء، وتصرفوا فيها تصرف الملاك بالقهر والغلبة، ويتولى انتزاعها بأمور معروفة عندهم.

تقدير قضاء المظالم في مواجهة الفساد الإداري

مما سبق بيانه نخلص إلى ما يلي:

-على مدى أهمية وظيفة والي المظالم في الدولة الإسلامية، وما كان له من القوة ونفاذ الكلمة، فقد كان يتولى نظر المظالم من بيده السلطة الفعلية من الخلفاء، أو الوزراء  والسلاطين، وكان النظر في المظالم يعتبر من الأمور العظيمة المكملة للسلطة، وهذه السلطة هي التي ساعدت والي المظالم أن يؤدي ما هو منوط بولايته من أعمال وواجبات في التصدي للفساد وقمعه.

-أما ما تعلق بالشكاوى من كتاب الدواوين ونذكر منها على وجه الخصوص شكاوى العمال والموظفين من نقص أجورهم أو تأخرها أو منع رواتبهم، فيقوم بردها طبقا للقوانين العادلة فهو بذلك يقوم بالرقابة المالية على ما نسميه الآن بالباب الأول من المصروفات بالميزانية العامة للدولة، كما برد الأموال التي تغتصبها السلطات العامة لأصحابها ويجري الأوقاف على شروط واقفها.

-قيام الديوان بأعمال التفتيش والتحري على ما يجبيه العمال من الأموال من الرعية، ليتأكد من أن هذه الأموال حصلت طبقا لما تقضى به أحكام الشريعة الإسلامية... وإذا ما اكتشف أن بعض المبالغ حصلت بدون وجه حق ردها إلى أصحابها بدون تظلم منهم.

-تصفح قضاء المظالم للإيرادات يماثل إلى حد كبير ما تقوم به الغرفة الخاصة بإيرادات الإدارة المركزية بمجلس المحاسبة في رقابتها المالية على الجهاز الإداري للدولة.

-تصفح أحوال كتاب الدواوين أي العاملين بمصالح الحكومة المختلفة، وهو ما تقوم به الرقابة الإدارية الآن من الكشف عن المخالفات الإدارية والمالية التي تقع من الموظفين أثناء مباشرتهم لواجبات وظائفهم والعمل على منع وقوعها ومعالجة ما يقع منها.

-مراقبة ريع الأوقاف الخيرية، ليتأكد من أنه ينفق في الأغراض المخصصة له، وهذا ما يقوم به مجلس المحاسبة اليوم، حيث يراجع إيرادات ومصروفات الأوقاف والتي تتمثل حاليا في إيرادات ومصروفات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.(ابن،خلدون، 2001)

يتضح لنا مما سبق أن والي المظالم كان يباشر بحكم اختصاصاته المتقدمة، وبفضل ماله من قوة وسلطان رقابة مالية فاعلة على إيرادات الدولة الإسلامية ونفقاتها، لدرء كل مظاهر الفساد المتعلقة باستخدامات الأموال العمومية، ويكفل العدالة لكل خصومة مالية تقع بين الإدارة والأفراد، وهو قادر بسلطانه على وضع الأمور في نصابها السليم بما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية، سواء في ذلك ما يتعلق بتحصيل الإيرادات أو بإنفاقها.لقد كانت هذه الاختصاصات وغيرها مما لم يتسن ذكره شاملة لمهام دينية وإدارية وقضائية اختص بها قضاء المظالم، والذي كان يمثل في وقته نموذجا فريدا من نوعه الغرض منه مكافحة الفساد وإشاعة العدل وإظهار الحق، وفرض سلطان الدولة وهيبة الشرع في المجتمع الإسلامي على أساس من المشروعية الإسلامية القائمة على منع الظلم والاستبداد.(عبد،المنعم، 1988) و(الطماوى، 1969).

خاتمة

تشكل ظاهرة الفساد بكل أنواعها ظاهرة معقدة وتفصيلية، جعلت من تحديد مفهوم الفساد أمرا صعبا على كل الباحثين، بسبب التعقيدات والقضايا المختلفة والمتشابكة التي تتداخل وتتقاطع داخل هذه الظاهرة، وبسبب المقاربات التي ينتهجها كل فريق من الباحثين للغوص في خفايا ها ودراستها في العمق.ورغم هذا فقد حاولنا جاهدين في هذه الورقات أن نتعرض لمختلف المقاربات والتوجهات وحصر جملة من المفاهيم حول معنى الفساد بصورة عامة والفساد الإداري والمالي بصورة خاصة، سواء كان ذلك في الدراسات المعاصرة أو في الدراسات الإسلامية التي تطرقت لهذا الموضوع، وقد حاولنا جاهدين أن نقدم نظرة دقيقة عن معالم المنهج الإسلامي الذي قدمه الإسلام للبشرية في تصديه لهذه الآفة الخطيرة ومحاربتها من الجذور، من خلال عرض منهجه التربوي الأصيل الذي يعتمد على تزكية النفس الإنسانية وبنائها وفق منهج أخلاقي وقيمي محدد، وكذا تركيزه على بناء كيان الجماعة التي تأخذ طابعها الرسمي في شكل المؤسسة أو الإدارة أو الدولة.مبرزين في ذلك أهم الوسائل والآليات التشريعية والإدارية والقضائية الوقائية منها والعلاجية، التوجيهية منها والردعية التي رصدها النظام الإسلامي وهو يتصدى للفساد بكل حزم وجدية وثبات. أين توصلنا إلى جملة من النتائج مرفقة ببعض التوصيات نوجزها في ما يلي:

 النتائج

-لاحظنا أن المنهج الإسلامي يعتمد أساسا على تقديم نظرة شمولية لمفهوم الفساد وما يرتبط به من أسباب وعوامل تؤسس لمعالجة شاملة لكل مظاهره وأشكاله وفي مختلف مستوياته ومراحله، مشخصا أسباب هذا الآفة الخطيرة ودواعيها ومؤكدا على أهمية تقديم العلاج الناجع والشافي لكل البشرية منه من خلال ما عالجناه في هذه الورقة البحثية.

-تمثل النصوص الإسلامية التي وردت في القرآن والسنة الأساس المرجعي والإطار التشريعي الذي يضبط هذا المفهوم الشامل لظاهرة الفساد في دواليب الدولة، مجسدة بذلك منحى التصدي التشريعي لظاهرة الفساد الإداري والمالي في الإسلام والذي استُقيت منه مختلف المعالجات والحلول المقدمة لمواجهة هذه الآفة على حسب أوضاعها وأشكالها المتنوعة، ومحددة الإطار المنهجي الذي سلكته الحضارة الإسلامية مجتمعا وإدارة ودولة في التصدي لهذا الخطر ومكافحته عبر العصور.

-تركيز الإسلام على تقديم منهج تربوي فريد لإعداد الفرد المسلم بصورة عامة، والموظف العام بصورة خاصة من أجل أخلقة الأعمال الإدارية وترشيد أفعال التسيير الإداري والمالي في الإدارة الإسلامية بما يكفل توفير بيئة نظيفة للممارسة النزيهة والأداء الخلاّق، وقاية من الفساد وتجنبا للوقوع في الانحراف.

-تضطلع السلطة العامة في الدولة الإسلامية ممثلة في الخلفاء والوزراء والولاة بدور مهم وأساس في التصدي لكل أنواع الفساد، وبخاصة في إدارة الدولة مركزيا وإقليميا، وذلك بموجب سلطتهم العليا التي كانوا يمارسونها على الأمة.وبصفتها تمتلك الأدوات القانونية والإدارية التي تمكنها من تنفيذ مشاريعها المختلفة في الرقابة والتصدي للفساد.

-اشتهرت في الدولة الإسلامية جملة من الدواوين التنفيذية الإدارية والمالية التابعة للسلطة التنفيذية كديوان بيت المال وديوان النظر وغيرهما... كانت تمثل أداة إدارية أساسية في أيدي الخلفاء للكشف عن كل مظاهر الفساد والانحراف في التعامل مع الأموال العامة، ومختلف استخداماتها في الدولة الإسلامية دخلا وخرجا. للتدخل سريعا من أجل كبح جماح الفساد قبل أن يستفحل وينتشر. وهي تضارع اليوم ما تقوم به دوائر المحاسبات ومصالح الخزانة من رقابة وتفتيش في الدولة المعاصرة.

-من الآليات الإدارية الأساسية لمواجهة الفساد في الدولة الإسلامية دائرة الحسبة وهي جهاز إداري ظبطي يسبق القضاء، يتولى رقابة الأسواق وتعاملات الناس المالية...، ونظافة الأماكن العامة والطرق، ويتصدى لكل مظاهر الفساد المالي والإداري بما يمارسه من مهام واختصاصات تتعلق بالرقابة على تحصيل إيرادات الدولة ممن يمتنعون عن الدفع مما استحق في أموالهم لبيت المال من الزكوات والضرائب، فيحصّل الديوان منهم هذه الإيرادات جبرا وقهرا. كما يحول دون إنفاق الأموال العامة في غير الأبواب المخصصة لها شرعا ليكشف ما قد يكون من إسراف أو بذخ من جانب القائمين على هذا الإنفاق. كل ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

-كان قضاء المظالم يمثل في وقته نموذجا فريدا من نوعه الغرض منه مكافحة الفساد الإداري والمالي وإشاعة العدل وإظهار الحق، وفرض سلطان الدولة وهيبة الشرع في المجتمع الإسلامي، كل ذلك على أساس من المشروعية الإسلامية القائمة على منع الظلم والاستبداد. حيث كان يباشر بحكم اختصاصاته المتقدمة وبفضل ما أوتي من قوة وسلطان رقابة مالية فاعلة على إيرادات الدولة الإسلامية ونفقاتها لدرء كل مظاهر الفساد المتعلقة باستخدامات الأموال العمومية، ويكفل العدالة لكل خصومة مالية تقع بين الإدارة والأفراد، وهو قادر بسلطانه على وضع الأمور في نصابها السليم بما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية.

-في الأخير يمكن القول أن الإسلام قد قدم منهجا أصيلا متكاملا في الوقاية من الفساد ومكافحته، من مستوى الفرد إل الأسرة إلى الأمة، ومن مستوى المؤسسة إلى الإدارة إلى الدولة، ومن المستويات البسيطة في المعاملات والأنشطة والعلاقات إلى المستويات المعقدة منها، معتمدا في ذلك على نطاقات مختلفة من المعالجة والإصلاح والتصدي والحماية، فلم يترك للفساد سببا أو جذرا إلا واستأصله ولا منفذا أو مسلكا إلا وسده، ولا مرتعا أو بؤرة إلا وقضى عليها.

توصيات

-اعتماد المنظور الإسلامي الشمولي لمفهوم الفساد ومنهجه الشامل الذي قدمه للعالم في التصدي لكل مظاهر وأنواع الفساد وفي كل المستويات والنطاقات وبخاصة على صعيد الإدارة والدولة والمؤسسات.وكذا ضرورة التأكيد في مختلف الدراسات الحديثة على قيمة التجربة الإسلامية في مجال مكافحة الفساد الإداري والمالي في الحضارة الإسلامية للاستفادة منها في الواقعين العلمي والعملي.

-الاهتمام بالمبدأ السلوكي والتربية الذاتية للأفراد العاملين في مجالات الحياة المختلفة بصورة عامة والإدارية بصورة خاصة، نظراً لما لها من أسباب مباشرة في زيادة كفاءة وفاعلية الأداء والممارسة والانتاج، وتجنب الوقوع في الانحراف أو الفساد من خلال استغلال كل الوسائل والفضاءات المتاحة والممكنة كالأسرة والمدرسة والمسجد وسائل الإعلام، وتنفيذ برامج توعوية وتثقيفية، ودورات تكوينية تعرف بمخاطر الفساد ومضاره العامة والخاصة من خلال مختلف المؤسسات الثقافية والتربوية، والجمعيات والتكتلات وهيئات المجتمع المدني...

-تعديل المناهج الدراسية والتعليمية القائمة في المدرسة والجامعة بما يضمن إعادة تشكيل وبناء الشخصية الوطنية للفرد المسلم في بلداننا العربية والإسلامية على أساس من الأمانة والنزاهة ويقظة الضمير، وحسن الخلق والكفاءة والفاعلية، بما يضمن توفير طاقات بشرية مؤهلة لتولي الوظائف العامة في الدولة لأخلقة وتطوير الممارسة والأداء المتعلقين بالشأن العام...

-إعادة النظر في بعض السياسات العامة والمناهج الإدارية في الدولة التي تسمح بظهور بيئات محفزة لذيوع الفساد وانتشاره، بدءا بمراجعة المنظومة القانونية والنظم الإدارية المنتهجة في الإدارة العامة والنظام الإصلاحي والعقابي المعد وطنيا لإعادة رسكلة وإصلاح المتورطين في الفساد..

- تفعيل منظومة الشفافية والمساءلة على مختلف الأصعدة والمستويات من خلال تفعيل دور الأجهزة الرقابية بمختلف أنواعها على مختلف وحدات التنفيذ والتصرف في الشأن والمال العام لتجنب الوقوع في الفساد والوقاية منه.

-التأكيد على دور القضاء في مكافحة الفساد والمفسدين بمنحه الحصانة الكافية والسلطة الكاملة، والقدرة على التدخل بكل استقلالية من خلال مؤسساته المختلفة لإضفاء متابعة ورقابة شاملة على كل أعمال الإدارة وتصرفاتها خاصة في مجال الصفقات العمومية واستخدامات الأموال العامة، والتصدي لكل مظاهر الفساد ومعاقبة كل المفسدين بدون استثناء.

-الاستفادة من مختلف التجارب الدولية لإعادة صياغة وإنتاج مؤسسات ودوائر حكومية واجتماعية قادرة على مواكبة التطورات، والتصدي بكل حزم وثبات لمنظومة الفساد والمفسدين في الدولة.

المراجع

المؤلفات

إبراهيم،حسن (ب- د- ت)، النظم الإسلامية، دار النهضة العربية.

ابن تیمیة، أبو العباس تقي الدین أحمد بن عبد الحلیم،(1997) مجموع الفتاوى،تحقیق: الجزار،عامر والباز، أنوار، الرياض، دار الوفاء، مكتبة العبیكان.

ابن تیمیة، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم،(1988)،السیاسة الشرعیة في إصلاح الراعي والرعية، بيروت، دار الجيل.

ابن حجرالعسقلاني، (1988)، فتح الباري شرح صحيح البخاري،ج13،القاهرة، المطبعة البهية الأميرية.

ابن حنبل،الإمام أحمد، (1998)،مسند أحمد،ج6،القاهرة، دار المعارف.

ابن خلدون،عبدالرحمان،(2001)،المقدمة،بيروت،دار الكتاب العربي.

ابن عاشور،محمد الطاهر،(1978)، مقاصد لشريعة الإسلامية، تونس-04 قرطاج، الشركة التونسية للتوزيع.

ابن عبد السلام، العز،(2000)، قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق: حداد، نزيه كمال ، وضميرية ،عثمان جمعة، دمشق، دار القلم.

ابن كثیر، أبو الفداء، إسماعيل.(ب-د-ت)، تفسير القرآن العظيم،عمان، مؤسسة الريان للطباعة والنشر.

ابن منظور، جمال الدین محمد بن مكرم،(ب - د - ت)، لسان العرب، مج 5، مصر، دار صادر.

أبويوسف، يعقوب بن إبراهيم،(1979)،الخراج، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.

أسامة السید،عبد السميع،(2009)،الفساد الاقتصادي وأثره على المجتمع: دراسة فقهية مقارنة،الإسكندرية، دار الجامعة الجديدة.

البخاري- الإمام-،اسماعيل بن إبراهيم، (ب -د - ت) صحيح البخاري،،باب هدايا العمال،ج9، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

بوسقيعة، حسن، (ب- د - ت)، الوجیز في القانون الجزائي الخاص، الجزائر،دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع.

الجصاص، أبو بكر أحمد الرازي، (ب- د - ت)، أحكام القرآن ج2، بيروت، لبنان: دار الفكر للطباعة والنشر.

حسني، محمود نجيب، (1992)، الاعتداء على الأموال، القاهرة، دار النهضة العربية.

الرازي، محمد بن أبي بكر، (1985)،.مختار الصحاح،ج1، بيروت، مكتبة لبنان.

الراغب، الأصفهاني أبو القاسم الحسین بن محمد،(2001)، المفردات في غریب القرآن، بيروت، دار المعرفة.

 الرملاوي، محمد سعيد، (2012)، أحكام الفساد المالي والإداري في الفقه الجنائي الإسلامي، الإسكندرية، دار الفكر الجامعي.

الزمخشري، محمود بن عمر،(1977)، تفسير الكشاف،ج2، دمشق، دار الفكر.

الساهي، شوقي عبده،(1991)، الفكر الإسلامي والإدارة المالية للدولة، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.

الشاطبي.أبو إسحاق، (ب - د - ت)، الموافقات في أصول لشريعة، تحقبق عبد الله دراز، بيروت، دار الكتب العلمية.

شتار، السيد علي،(2003).الفساد الإداري ومجتمع المستقبل،الإسكندرية، المكتبة المصرية.

الشمري، هاشم والفتلي،إيثار، (2011).،الفساد الإداري والمالي وآثاره الاقتصاادية، عمان، دار اليازودي العلمية.

الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، (ب - د - ت)، فتح القدیر،ج 1، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

صبحي، الصالح،( ب - د - ت)،النظم الإسلامية، بيروت، دار الكتاب اللبناني.

الطماوى، محمد سليمان، (1969)، عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة دراسة مقارنة، القاهرة، دار الفكر.

عبدالمنعم، حمدي،(1988)، ديوان المظالم، نشأته وتطوره واختصاصاته مقارن بالنظم القضائية، بيروت، دار الجيل.

العموري، محمد رسول، (2005)،الرقابة المالية العليا، بيروت، منشورالت الحلبي الحقوقية.

الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، (ب - د - ت)، المستصفى في أصول الفقه، بيروت، دار الكتب العلمية.

الفیروزآبادي، مجد الدين،( ب - د - ت)، القاموس المحيط، القاهرة، دار الحديث.

قدامة، بن جعفر، (1981)، الخراج وصناعة الكتاب، بغداد، دار الرشيدي للنشر.

القرطبي، أبوعبد الله أحمد بن محمد،( 1985)، الجامع لأحكام القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

القلقشندي، أحمد بن علي، (1987)، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، بيروت، دار الكتب العلمية.

الكفراوي، محمد عوف،(2004).الرقابة المالية في الإسلام، الإسكندرية، مطبعة الجامعة الجديدة.

كلیتجارد، روبرت،(1994).السيطرة على الفساد.ترجمة، عجاج، على حسين، بيروت، دار البشر.

لاشین، محمود مرسي، (1977)، التنظیم المحاسبي في الدولة الإسلامیة للأموال في الدولة الإسلامیة، بيروت، دار الكتاب.

الماوردي، علي بن محمد (2006)، الأحكام السلطانية، تحقيق نجاد، أحمد، القاهرة، دار الحديث

مسلم، الإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، (1971)،الجامع الصحيح،ج6، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

 

معابرة، حمود محمد، (2001)، الفساد الإداري وعلاجه في الشريعة الإسلامية، دراسة مقارنة بالقانون الإداري،عمان، دار الثقافة.

هلال، محمد عبد الغني حسن هلال، (2010)، مقاومة ومولجهة الفساد،،عمان، دار الكتب.

الوادي، محمد حسين ،عزام،زكريا، (2000)، المالية العامة والنظام المالي الإسلامي،عمان، دار المسيرة.

الأطروحات والرسائل

آل الشيخ، خالد بن عبد الرحمان،(2007)، الفساد الإداري : أنماطه وأسبابه وسبل مكافحته ،أطروحة مقدمة لاستكمال متطلبات الحصول على درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم الأمنیة، قسم العلوم الإداریة، جامعة نایف العربیة للعلوم الأمنیة، الریاض، المملكة العربية السعودية

شحاتة، شوقي إسماعيل، (ب – د- ت)، نظام المحاسبة لضریبة الزكاة والدفاتر المستعملة في بیت المال، رسالة ماجستیر، كلية التجارة، جامعة القاهرة، القاهرة، جمهورية مصر العربية.

الفارس، أحمد بن عبد الله بن سعود(2008)، تجریم الفساد في اتفاقیة الأمم المتحدة، دراسة تأصيلية مقارنة، مذكرة مقدمة لنیل شهادة ماجستیر، كلیة الدراسات العلیا، جامعة نایف العربیة للعلوم الأمنیة، الریاض، المملكة العربية السعودية.

یوسف ریان،حسين راتب،(1993)،الرقابة المالية في الشريعة الإسلامية، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا،الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.

مقالات علمية

راضیة، بوزیان.(2009)، ظاهرة الفساد في المجتمع العربي : الجزائر نموذجا، مقاربة سوسیولوجیة تحلیلیة للفساد واستراتیجیات الإصلاح في ظل العولمة، مجلة العلوم الإنسانیة، السنة السادسة ، العدد40.

بحوث وملتقيات

جعفر،عبد السلام،(2003)، التعریف بالفساد وصوره من الوجهة الشرعیة، بحث مقدم للمؤتمر العربي الدولي لمكافحة الفساد مركز الدراسات والبحوث، الرياض.

خیاط،عامر، (2006)، مفهوم الفساد، ملتقى المشاریع الدولیة لمكافحة الفساد والدعوى للإصلاح السیاسي والاقتصادي في الأقطار العربیة،أكادیمیة نایف العربیة للعلوم الأمنیة.بيروت

سعود، الطاهر (2007).موضوعیة ترشید الحكم في تراثنا العربي الإسلامي كتاب : بدائع السالك في طبائع الملك،بحوث وأوراق عمل الملتقى الدولي حول الحكم الرشید واستراتیجیات التغییر في العالم النامي (المحرر)، الحكم الرشید واستراتیجیات التغییر في العالم النامي، مكتبة إقرأ، قسنطينة.

@pour_citer_ce_document

عبد العزيز عزة, «معالم المنهج الإسلامي في التصدي للفساد الإداري والمالي»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 209-234,
Date Publication Sur Papier : 2022-12-06,
Date Pulication Electronique : 2022-12-06,
mis a jour le : 06/12/2022,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=9095.