مقاربة تأويلية في رواية «شطح المدينة لجمال الغيطاني»: أطروحة الناقد محمود أمين العالم The hermeneutical approach of the novel “chatah al-madina” -the delusions of the city- by Gamal Ghitany according to the thesis of the critic Mahmoud amine Al-alem L’approche herméneutique du roman «chatah al-madina»-les délires de la ville de Gamal Ghitany selon la thèse du critique Mahmoud amine Al-alem
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 20-2023

مقاربة تأويلية في رواية «شطح المدينة لجمال الغيطاني»: أطروحة الناقد محمود أمين العالم
L’approche herméneutique du roman «chatah al-madina»-les délires de la ville de Gamal Ghitany selon la thèse du critique Mahmoud amine Al-alem
The hermeneutical approach of the novel “chatah al-madina” -the delusions of the city- by Gamal Ghitany according to the thesis of the critic Mahmoud amine Al-alem
ص ص 170-182
تاريخ الاستلام 2020-07-02 تاريخ القبول 24-01-2023

حفيظ ملواني
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تحاول هذه الدراسة أن تبحث في المفاتيح النظرية التي تمنح فرصة تأويل العمل الروائي استجابة للأسس الفينومينولوجية التي تُموقع علاقة الذات بموضوعها، على نسق فهم الفهم، حتى تظهر فعالية الوعي، من أجل تأمين تمثُّل الأفكار في الذهن، ما يُسهِّل استحضارها لحظة الحاجة بشكل جدي، مع مراعاة الشرط الفني وخصوصية الجنس الروائي الذي يُسرِّع بدوره في حركية المخيال الأدبي استنادا إلى لغة الترميز التي تفتح أفق التأويل من أوسع أبوابه، إلى جانب ضمان التفاعل النفسي والمعرفي في حدود المقروء المُتاح، بالنظر إلى قراءة الناقد أمين محمود العالم لرواية «شطح المدينة» لجمال الغيطاني حيث التقت الهواجس النفسية الداخلية بالمحيط الواقعي الذي يحمل في طياته جُملة من التناقضات التي تجمع الظاهر بالباطن، العالِم بالجاهل ،القوي بالضعيف، الصالح بالطالح، كل ذلك في سبيل استيعاب حقيقة الأداء الفني الروائي الخالص الذي تُقدمه الممارسة التأويلية ذاتها بأبعاد خلفية المؤوِّل وفلسفته في الحياة، بالقدر يجعل التأويل إضافة نوعية للنص المستهدف «شطح المدينة» تقارب صفة الإبداع حيث يتحقق الوعي النقدي مع مقتضيات التحيين مع كل قراءة

L’option de cette étude tente de rechercher et d’examiner les mécanismes et les objectifs de la théorie herméneutique littéraire, en réponse aux fondements phénoménologiques qui placent et en déterminent la relation de soi avec son sujet comme objet de compréhension, afin de montrer l’efficacité de la conscience, ce qui permet la bonne représentation factuelle des idées dans l’esprit, ce qui facilite leurs évocations au moment voulu, en tenant compte de l’aspect artistique désigner, ainsi que la spécificité du roman visée ,ce qui accélère à son tour la dynamique de l’imagination littéraire, sous le produit codifié du langage soutenu ce qui ouvre la potentialité de l’interprétation a une grande échelle chez le lecteur destiné ; à partir de ses propres impulsions, afin d’assurer la commodité interactionnelle entre phénomène psychologique et cognitif ,selon la lecture critique interprétative sous l’égide de l’éminent critique nommé Mahmoud Amin El aleme dont la fructueuse approche destinait au Roman « Shattah al Madina » (les délires de la ville)de Jamal Al-Gheitani, où les litiges du fait contradictoire se propagent entre les préoccupations psychologiques et la confrontation pénible du réel, dont l’anomalie sera prévalue entre le dehors et le dedans, le lettré et l’illettré, le fort et le faible afin de déterminer la valeur pratique de l’interprétation romanesque; Sur la base du rôle infligé au lecteur dans l’espace de sa mobilité et sa possibilité sous l’entendement actualisé de la vérité artistique et littéraire

The option of this study attempts to research and examine the mechanisms and purposes of literary hermeneutical theory, in response to the phenomenological foundations that place and determine the relationship of oneself with one’s subject as an object of understanding, in order to show the ‘efficiency of consciousness, which allows the good factual representation of ideas in the mind, which facilitates their evocations at the desired time, taking into account the artistic aspect to designate, as well as the specificity of the targeted novel, which accelerates in turn the dynamics of the literary imagination, under the codified product of the supported language, which opens the potentiality of interpretation on a large scale in the intended reader; from his own impulses, in order to ensure the convenience of interaction between psychological and cognitive phenomenon, according to the interpretive critical reading under the aegis of the eminent critic named Mahmoud Amin El aleme whose fruitful approach intended for the novel “Shattah al Madina “(The delusions of the city) by Jamal Al-Gheitani, where the disputes of the contradictory fact spread between psychological preoccupations and the painful confrontation of the real, the anomaly of which will be prevalent between the outside and the inside, the scholar and the ‘illiterate, the strong and the weak in order to determine the practical value of the novelistic interpretation; Based on the role inflicted on the reader in the space of its mobility and its possibility under the updated understanding of artistic and literary truth

Quelques mots à propos de :  حفيظ ملواني

Pr. Hafid Melouaniجامعة البليدة 2، الجزائرkhaledkhouani@gmail.com

مقدمة

يبدو فضاءُ الأدب واسعا في صورة تجليه، وقوة ذيوعه وانتشاره، بما في ذلك خصوصية العمل الروائي المنجز الذي قد يُخفي وراءه محكّ فلسفة إبداعه والسياق المخيالي الذي يرتضيه أمام محك القراءة التأويلية التي سرعان ما تحاول تلطيف خاطر المؤوِّل باستعداداته الفطرية والمكتسبة وتنويراته الأيديولوجية، ولغته المفارقة لنصية تشكيل الرواية والشارحة لمتنها كوضعية الناقد محمود أمين العالم (رحمه الله)[2009-1922] وهو يرمي إلى تتبع خطى مراد الكاتب المبدع جمال الغيطاني (رحمه الله)[1945-2015]تحت وتيرة تأثيرات لغة الترميز التي تتمتع بها رواية «شطح المدينة» بالنبرة الصوفية الوهاجة، ما يعني أن المُتأمل في الظاهرة الروائية أمام حدَّين :حدّ توصيف إنتاجه ثم حدُّ تلقيه فتأويله، فالعملية مُزدوجة الأثر تأخذ بالسبب والنتيجة في آن واحد، دون استئذان أو إخبار مُسبق، وهذا قد يُضاعف من الخطورة في التعامل مع الظاهرة الروائية، على نحو ما تطلعنا عليه رواية «شطح المدينة»، لأن المسؤولية في هذا المستوى من المقاربة التأويلية المُزمع تطبيقها ستتجاوز حتما مقاصد الإبداع في أصل تكوينه، فيصير المتلقي المؤوِّل صانعا لرؤية تفتك بفهم قد لا ينصاع بالضرورة لإملاءات النص وإغراءاته كما يبدو في منحى قراءة محمود أمين العالم التي قد تكون هي الأخرى في موقع المحكّ، لأنها تفصح عن شكوك وتساؤلات من قبيل: هل في القراءة التأويلية منحى من التوافق والتكامل بين قصدية الكاتب ونصه في مقابل قصدية النص وقارئه؟ أيُّ تأويل يحصد المعنى المترامي الأطراف بين شتات النص وافتراضات المؤوّل القبلية؟، هل من سبيل للتغلُّب على أيديولوجية المقروء ومهادنته في الوقت نفسه؟، ولعلَّ وجاهة امبرتو إيكو [2016-1932](Umberto Eco) في هذا السبيل هو الوفاء لمطلب إستراتيجية التضاد بين ما يُخطِّطه المبدع -المؤلف- وما يُقْبل عليه القارئ وهو في المقام النوعي، طالما أنه يؤدي وظيفة التأويل باقتناع ورصانة وتأمل، فالأمر ليس مجرد شطحات أو أهواء مُنقطعة عن واقع المقروء كما قد يروج له عنوان الرواية المستهدفة من هذه الدراسة «شطح المدينة» ما يبرر ذلك تلك المرجعية التي تستدعي من قراءة محمود أمين العالم أن يخوض مقاربة تاويلية إشكالية بامتياز لتحاول تبعا لهذا المآل المعرفي تخطي أو اختصار مسار التنظير لأجل استجلاء هذه المقاصِد تحت وثبة الوِجهة الفينومينولوجية بأولوياتها وخياراتها وبحسب روادها يتقدمهم دون منازع إدموند هوسيرل[1859-1938] (Edmund Husserl) ضف إلى ذلك، تلك الفرضيات المُقترحة والإقرارات النقدية المنحوتة، المُلازمة لها أحيانا ومُتفرِّعة عنها أحيانا أخرى من أمثال مارتن هيدجر [1889-1976](Martin Heidegger)، وروني شيرر (René schérer)، وجان غراندان(Jean grondin) تيري إيجلتن (Terry Eagleton)، هانس جورج غادامير[1900-2002](Hans George Gadamer) فولفغانغ إيزر [1926-2007] (Wolfgang Iser)، دون إغفال الصوت العربي الفلسفي وفق منظور سعيد توفيق واختصارا لهذه الإشارات والتلميحات في شموليتها، قد تجعل هذه المقاربة في مسلكها تجمع بين الاستقراء والتحليل مع فرضية التوفيق بين مستلزمات حرفية المعنى ومنابع المعنى الضمني تحت وطأة ترهين المقاصد وتفويض الموقف النقدي الرصين المُنفتح.

الاستحقاقات النظرية

المنظورالفينومينولوجي الهوسرلي

لقد عاين إدموند هوسيرل (Edmund Husserl) واقع انهيار الأبعاد الأيديولوجية؛ إبان الحرب العالمية الأولى، عندما وصلت أوروبا إلى حافة الدَّمار، وحيثُ صارت الفلسفة ضحيةً بين الوَضْعِية العقيمة والذاتية المُفْرطة، فراح هوسيرل يُؤسِّس مشروعه من أجل الخروج من أزمة التفكير التي يعيشها -في نظره -العقل الأوروبي مُبشِّرًا بــــ «تأسيس العلم الفلسفي بحيث تُصبح الفلسفة علما بالمعنى المطلق للكلمة» (هوسيرل، 1978) انطلاقا من فكرةٍ مفادها ؛ لا ينبغي أن تُقاس تصرُّفاتُ الإنسان باعتباره كيانا مُنفصلا عن الأشياء التي تحيط به، وأيُّ مَعْرفةٍ تدعي لنفسها روح الاكتمال، فينبغي أن تتجاوز «مبدأ القسمة الثنائية إلى ذات وموضوع، يريدُ كل منهما يستحوذ عل الآخر وأن يلغي وجوده» (توفيق، 1992) ما يعني في ذلك اللجوء إلى القصدية (Lintentionnalité) حتْمًا إذ أنها هي التي تُؤدي على وجه الضرورة إلى توجُّه الذات إلى موْضُوعِها من خلال التفكير فيه باعتباره معنًى يُشغِل الوَعْي (Breton, 1956) لتصير إشكاليتُها البحث في الطريقة التي تسمح لكافة الأشكال المادية والمعنوية لأن تتمظهر في هذا الوعي وهي خاليةٌ من أيِّ التباسٍ مُمْكنٍ، رُبما يحتاج هذا الأمر إلى ما يُشبه أداةً تقيس هذا الوعي في حدّ ذاته، حتى يتسنى فهم طبيعته ووظيفته بأكثر فعالية، فالوعي لا يتحقَّق في إطاره الملموس إلا من خلال الوعي بشيء ما، ولذلك فإن فعل التفكير وموضوعه لا ينفصلان البتَّة ؛أي استحالة انفصال المُفكِّر عما يفكِّر فيه، وحتى تُثبت هذه الفرضية حُجَّتها -بمنطق هوسيرل –تحثُّ على أن تشرع هذه الذات المُفكِّرة في ممارسة ما يُصطلَح عليه بالتعليق ؛ أي الإبوخية (Epochè)، والمقصود منه هو وضع كلّ شيء يُحيط بها(الذات المُفكِّرة) أو سبق أن تَعرَّفتْ عليه بين قوْسَين، وهو كل ما يكون في حكم المُسْبق بدافع التخلُّص من مُضاعفاته المُشكِّكة حتى يتم الوصول إلى اليقين، فهو يقين الشيء على أساس إدراك ماهيته الصافية، فيصير التركيزُ لزوما قائما على مُقوّم الاختزال(Réduction)(Thévénaz, 1966) ؛ معنى ذلك أن هذه الذات المُفكِّرة ستصْرِف عنها كلَّ ما يُشتبَهُ أنه دخيلٌ بالنظر إلى اهتمامها ومركز عنايتها، فتقوم بإقصائه من حيِّز اهتمامها ؛ ذلك أن جميع الموْجودات هي عبارة عن ظواهر بأتمِّ معنى الكلمة ؛ بما في ذلك العالَم الذي تعيش في أحضانه الذات، بحيث لا يخلو من أن يكون بدوره ظاهرة ضمن الظواهر الأخرى التي تدخل في تِعداد تكوينه فيصير التفكير في محض ما يتجلى على مستوى الذهن بصورة مُباشرة، يدرك هوسيرل هذه الوصْفَة العلمية التي تتفوَّق بحسبه على العلوم المادية الطبيعية من منطلق أنها علمٌ بالظواهر الصرفة (la phénoménologie est la science du phénomène pur )، وهو يعتقد أن أصل الظاهرة في ثباتها يعود إلى إقرار الوعي بذاته ؛ ومنه فهو ليس ما يتوهَّمه المرء، على العكس من فهو بهذه الصفة سيتجلى في صورته يقينية، وتلك هي المعرفة الحقَّة بالظواهر ؛ حيث تُشكِّل النظام العام السائد لماهيتها في كل الأحوال، إنها العودة إلى الملموس، لقد اقتصرت الفلسفة ضمن حُلَّتها التقليدية في نظر هوسيرل على الأمور المُجرَّدة وابتعدت عن الجوانب الحسية المُجسِّدة والمسألة من هذه الزاوية لا ينبغي أن تقتصر على مستوى العلم بالأشياء وإنما الاعتناء بالشروط التي تُوصل إلى هذا العلم في اكتماله، إنه نوع من التعالي (transcendance)(Edmund Husserl, 1991)الذي يتجاوز علاقة الذات بالموضوع إلى مصفِّ أن تكون هذه العلاقة قيد الدراسة ؛ من قبيل أن تعي الذات المُفكِّرة نفسها وفي الوقت ذاته تُقوِّم وتُقيِّم علاقتها مع موضوعها المستهدف، فتتحول نتيجة ذلك من فضاء الإدراك إلى فضاء إدراك الإدراك، إن من شأن ما يُحقِّق وجود الظاهرة حسب هوسيرل في جوهرها وماهيتها، هو ما يستطيع الوعي أن يقف عنده ؛ ومن ثمَّة ما يُتَاحُ للمُخيِّلة (limaginaire) أن تصل إليه، لتستقر على وجه الثبات فيه فيتضِّح أصل المِخيال في كيانه الجوهري بعيدا عن الشك والالتفاف ؛ بصرف النظر إن كان أمرا ماديا أو حتى معنويا، فكل ظاهرة تشكِّل بنفسها مُعطى عاما كونيا ؛ أي ما يمكن أن يدركه أيُّ إنسان وليس من محْض الزاوية التي يركز عليها فرد دون آخر ؛ كأن تتصور مثلا أنك ما تُعاينه باعتباره شجرة يبقى على حاله في تشكُّل أيِّ وعي، بغض النظر عن الفروقات التي قد تحصل بين الأفراد نتيجة اختلاف الزاوية التي ينظرون منها اتجاه الظاهرة المُستهدفة، فإن كان الأمر كذلك، فيترتب عن ذلك ظهورُ كلّ كينونة تبعا لعلاقة الذات بها ؛ فلا فِكْر دون وجود والعكس صحيح ؛ فالعالم يصير على هذه الشاكلة مُقتصِرا على ما تشاهده الذات من خلاله في حدود وعيها به، ولعل قراءة هذه الفقرة من رواية «شطح المدينة» قد تؤكد وتؤيِّد منحى الخط الفينومينولوجي في فهم الظاهرة على سبيل المشاهدة الحسية من حيث المنطلق إلى حدود استيعاب القصدية التي يورثها الكاتب جمال الغيطاني لسارده أي راوي «شطح المدينة» بقوله «الميدان فسيحٌ، قديم والمباني عتيقة بالتأكيد... تمت كلها إلى ما قبل القرن التاسع عشر، عجوزٌ يرتدي معطفا بني اللون، يتوكأ على عصا ويمسك لفافة، يتابع بعينيه، يلتفت ... يثق أن ملامحه العابرة ستعلق بذهنه، أول ما سيتذكره عند استعادة أيامه هنا، عندما تولى هذه الأوقات كلها ويتحول المحسوس، المرئي إلى مجرد صور بعضها واضح، ومعظمها مضيب باهت. لكنه لا ينسى أبدا اللحظات الأولى، الانطباع الأول، رسوخ كامن وأيام عديدة مدثرة، قومٌ متباعدون ورائحة خفية تمت بشكل ما على زهور صفراء دقيقة، رهيفة، تتوسطها دوائر صغيرة بنفسجية هكذا عيّن، مع أن اليقين معدوم والأسباب منفية. لماذا العجوز؟ و لماذا التفكير في هذه الزهور؟ وأغصان جافة في ممر حديقة لا وجود لها» (الغيطاني، 1992) فالسارد -بتوجيه من الكاتب جمال الغيطاني- يضع خطاطة الصورة الحسية كمقدمة لاستيعاب الذات ما تعييه وفق عملية الاستذكار التي تنطبق على شخصية البطل ذلك المُسافر الذي وُجهت له الدعوة أو بالأحرى هو الذي قام بتلبية هذا الدعوة، فواقعة معاينته للرجل العجوز لا تنفي فكرة أنه سبق له وأن التقى بهذا الشخص العجوز في فترة مضت، على وجه الحقيقة أو بدافع من رؤى الحلم وقد لا يستبعد أن يكون هذا العجوز أحد شيوخ الصوفية الكِبار الجلاء، فاستذكار هذا المسافر للمكان هو استذكار لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان بشكل روحاني قبل أن يمتد الأمر إلى الفعل الجسدي ليتدخل فيما بعد خط صورة «الزهور الصفراء» وهي رمز عطر المحبة أو ما يوصف بالولاء الذي قد يكون قد جمع بين الطرفين بمنطق ولاء المُريد لشيخه، حتى وإن لم يتحقق هذا اللقاء بين الشخصين عقب حدوث هذه الواقعة، ربما الإشكالية الهرمينوطيقية التي يتعرض إليها هوسيرل هي التي تُشتغل مهندس الرواية في سبيل «تأويل بعض الظواهر أو الأخذ في الحُسبان بعض التغيرات التأويلية للأشياء فلأجل أن نصل إلى ماهيتها بشكل أفضل» (غراندان، 2007) إن المُعضلة الهرمينوطيقية بالمنظور الهوسيرلي هي عبارة عن مطيَّة لإدراك ماهية الظاهرة ؛ فأنت لا تدرك حقيقة الرواية انطلاقا من الفكرة النظرية الواصفة له ؛ بل عبر قراءته باعتبارها وسيلة فهمه ما يؤمّن تحقيق ماهيته.

حقيقة الرواية وأطروحة تيري إيجلتن

قد تُستمَدُ الحقيقةُ الروائية من العمل الأدبي تحت عباءة الغطاء الفني غالبا، تبعا لما هو مُدرَك في ظاهر التركيب اللغوي للرواية، لتتحوَّل مسألة المعنى من حدود الظاهرة الأدبية وفق النموذج الروائي المستهدف «شطح المدينة» إلى مسألة هرمينوطيقية أدبية بامتياز، فمنطق تيري إيجلتن(Terry Eagleton) يضع- في هذا السياق- الفينومينولوجيا في موضع المؤثر المباشرٌ على فحوى التنظير الأدبي وما يمكن أن يسفِر عنه العمل الروائي الذي يجري تشييده نظريا، بذريعة أن ما يجري استهدافه أدبيا من منظور فينومينولوجي، لا يكون إلا باعتباره ظاهرة أدبية خالصة وبشكل أدق مع تطلعات هذه المقاربة سيتحوَّل النص المستهدف إلى ظاهرة روائية خالصة، ووفق هذا المنحى سيُمارَس عليها-الرواية- فعل التعليق، فيؤدي ذلك إلى إلغاء الأحكام المُسْبقة في شأن ما هو متعارف عليه، انطلاقا من عزل هذا النص الروائي «شطح المدينة» عن مؤثراته الخارجية، محاكاة ما فعله الشكلانيون الروس حتى تصير العملية الإدراكية اختبار نيل الاعتراف باستحقاق خصوصية النص الأدبي في طبيعته وجِنسه (Eagleton, 1994) ومع سيرورة هذا المنطق التحليلي التأويلي تكون البداية من حدود القراءة المُحايثة للنص ؛ بشرط أن تُبنى الفرضية على معيار كون النص في ذاته ؛ أي في بنيته قادرا لأن يستوعب فكر مُؤلِّفه بالطريقة التي تجعل رواية «شطح المدينة» ورؤية مؤلفها كيانا واحدا، فيتحوَّل الأمران إلى شيء واحد يقول الناقد والشاعر اللبناني محمد علي فرحات: «جمال الغيطاني صديق وكاتب مصري، أقرؤه أدعي أني قرأت معظم أعماله لا فرق بين جمال الغيطاني وما يكتب هناك انسجام، هناك صدق » (وهبي، 2007) فاستحقاقُ المقولة الفينومينولوجية أن تُوحِّد على قيد الضرورة بين الذات الكاتبة وموضوعها ضمن خيار التشكيلة الروائية النصية المُستهدفَة، فكلاهما ملتحمان عضويا (المُؤلِّف والنص الروائي) لا انفصام بينهما بل قد يحدث التلاحم الفكري والعضوي بين جمال الغيطاني وبطل رواية «شطح المدينة» عبر ما يكشفه هذا المقطع من الرواية «بعد أن رتب حاجاته ليضفي خصوصيته على الغرفة المشاع نتمدد فوق السرير، مستمتعا بوحدته في حيزٍ غريب نائيا عن موطن. التمدد على الظهر والحملقة إلى السقف ومحاولة فرز الأصوات الشاحبة النائية، عادة اكتسبها منذ اعتقاله قبل ربع قرن وحبسه انفراديا لمدة أربعة أربعين يوما قبل تحويله إلى السجن الجماعي، وتعذيبه لإجباره على الاعتراف بالتهمة الموجهة إليه وإلى صحبه، قلب نظام الحكم من خلال إنشاء تنظيم سري يعتنق الأفكار الهدامة و يدعو على الصراع الطبقي وينكر الأديان السماوية جميعا» (الغيطاني، 1992)، وهذا ليس ببعيد عما وقع بالفعل لجمال الغيطاني يقول في إحدى حواراته: «الحياة الشخصية والأحداث التي مرت بالكاتب هي في نظري طبعا المادة الأساسية لأعماله، و من هنا عندما أقلب الآن السنوات التي مضت من حياتي والتي يبلغ عددها أربع وأربعين عاما وأعيد فيها النظر، يمكنني القول وأنا أقف الآن عند هذه المرحلة أنني أكتشف ما لم اكتشفه في آنيته أو وقت حدوثه» (عجينة، 1990) فما ورد في نص الرواية يكاد يتطابق مع ما كُتِب عنه في شأن تعرُّضه في منتصف الستينات للاعتقال والسجن والتعذيب ففي «عام 1965 كان قد بدأ ينخرط في تنظيم سياسي سري منشق عن الاتحاد الاشتراكي، ليمارس من خلاله كشف بعض الانحرافات الاقتصادية الموجودة داخل المؤسسة، التي يعمل كغيرها من المؤسسات في تلك الآونة، وينقل بسبب هذه التحرك السياسي إلي محافظة المنيا في الصعيد، ولا تلبث السلطات السياسية أن تعتقله في نهاية عام 1966، حتي مارس 1967، أي قبل النكسة بثلاثة شهور، ثم قررت المؤسسة أن يكون عمله هذه المرة في القاهرة نفسها في منطقة خان الخليلي، ويظل علي رأس عمله فيها حتي عام 1968» (علي، 2021)، فكل هذا المسار الحكائي تجده في أطروحة تيري إيجلتن بمنطق أن المظاهر الأسلوبية والدلالية التي تشكِّل النص لا تنفصل عن معطى فكر صاحبه ولا تتنكره فتُحِيل إليه بصورة آلية دون الحاجة إلى معرفة سيرة ذاتية المُؤلِّف وبيئته وما تعدَّاه إلى خارج الإطار الأدبي (Eagleton, 1994) بما في ذلك عالم الرواية، لأن التعامل مع النص هو تعامل مع البنى العميقة التي تُحقِّق حضور وعي المؤلِّف في نصه بجدارة، ما يعني ذلك هو كون العالم الأدبي الذي يُشكِّله المُؤلِّف عبر إبداعه ما هو إلا ذات المؤلِّف بعينه وبوعيه سيكون للعالم المادي الذي يعيش بين أحضانه حضورا ذهنيا مُلفتًا ؛ فلك أن تتصوَّر أن في النص عالما من صنف خاص هو عالم النص الأدبي، لتكتشف حينئذ أن ما تقوله الفينومينولوجيا نظريا يحقِّقه الإبداع الأدبي على مستوى النص وتُعلِّله الوظيفة النقدية وهي تستبعد كلَّ حُكم مسبق، وما يبقى أمامها إلا بنية الخطاب المستهدف في لغته، لا ينبغي أن تُعتبر لغة صناعة النص الأدبي في ذاتها غاية بل هي وسيلة حتى يستطيع ناقد هذا النص أن يخترق طبقات المعنى، بل المعنى الذي يسبق اللغة، لأنه هو أصل نظام التعبير ؛ وعلى ضوء وجود اللغة الأدبية تتأسس المحكيات بجميع لغات العالم نتيجة المخيال الأدبي ما يدلُّ على مدى تطوُّر الأدب ومنه تطوُّر أشكاله التعبيرية على مَرِّ العصور (Philipe & plat, 2010)؛ ولك أن تتحدث في سياق ذلك عن الدلالة الأدبية بشرط أن يكون مصدر إنتاجها من زاوية تلقيها.

إن منطق هذه الرؤية الفينومينولوجية سيُحوِّل المرء من الناحية الواقعية السوسيولوجية إلى نظرة تأملية محضة، بالرغم من أن هوسيرل حرِص على جعل المعنى الأدبي يتجاوز الذات وموضوعها ؛ إذ أنه ليس من محض الذات ولا هو من صنيع النص بعينه بقدر ما هو ثمرة صلة بينهما، لتتأكد حسب تيري إيجلتن (Eagleton, 1994) فرضية أن المعنى واحدٌ وأشكاله متعدِّدة، هذه الأحادية تتفق تمام الاتفاق مع قصدية المؤلف المُبدع ؛ أي أن ما يدلي به الخطاب الأدبي هو ما يعمد المبدع توصيلُه على أساس الإقرار أو ما يُراد الوصول إليه، لكن في ظل احتمال كون «ليس ثمة قراءة بريئة أو قراءة تبدأ من درجة الصفر وليس هناك قراءة مكتملة البناء تامة الوفاء، بل هنالك قراءات بعضها أوفى من بعضها الآخر وأن الاختلاف بين هذه القراءات أو التأويلات هو خلاف في الدرجة لا في الصفة»(رومية، 1996) وقد لا يُبالغ أيُّ دارسٍ في كون هذا المعطى الذي يُكبِّل القراءة على مسلك معنى مُستهدف ومقصود لذاته لا يُحقِّق ما هو منتظرُ منه، بسبب أنه يتوقع أن كل قارئ سيصل إلى حقيقة لا تُماثلها حقيقة أخرى ؛ على عكس حقيقة التجربة العلمية وفي هذا مطلب قد تصير الحقيقة المطلقة ضمن أطروحة العلوم الإنسانية وضمن الخصوصية الفنية في قيد الاستحالة وهو ما يريد مشروع هيدجر(Martin Heidegger) الوصول إليه .

امتدادات فلسفة هيدجر في المقاربة الروائية

يقترح هيدجر في تصوُّره أن معْقَل الدلالة في حقيقة الأمر يعود إلى البعد التاريخي في المقام الأول، يُؤسِّسُ ذلك فهم المرء للوجود وللكائن في حدِّ ذاته، فلوم لم يتحقق الفهم للوجود -بصرف النظر عن صحته- لما كان للوجود معنى، فالمسار الحياتي الذي يقطعُه المرء في أحضانه هو في جوهره مسارٌ زماني وبذلك يصير الوجود في نهاية المطاف غير منفصل عن التاريخ ؛ والفهم بدوره لا يتحقق إلا على ضوء هذه الحقيقة التاريخية في صيرورتها ومن ثمة تطوُّرها (Heidegger, 1982) فلم تعُدْ المسألةُ عملاً تأمليا بقدر ما هي مُعايشة لهذا الوجود ؛ ليُدرَك أن عالم الإنسان هو عالمٌ من الذوات ترتبط فيما بينها على ضوء علاقاتها ببعضها البعض، بحسب النشاط اليومي الذي تؤديه كل ذات إزاء ذات أخرى حتى تُستكْمل هيئة الوسط المادي الفيزيائي الذي تعيش فيه، ما يعني أن «العالم ليس هو جمع الأشياء الموجودة المعدودة وغير المعدودة. المعروفة وغير المعروفة ولكن العالم ليس أيضا مجرد إطار مصوّر أضيف إلى مجموع المعروض العالم يقيم لنفسه عالما وهو موجود بوصفه ما يمكن لمسُه وسماعُه، نتصور أنفسنا مواطنين فيه. العالم لا يكون أبدا شيئا يقوم أمامنا ونتمكن من مشاهدته. العالم هو دائما لا شيء الذي نخضع له»(هيدجر، 2001) ذا الفكرة لا تقتصر على مبدأ أن الإنسان منفصلٌ عن هذا العالم وأن الصلة الرابطة بينهما لا تكتفي بالعنصر التأملي أيضا، بل لا عالم للإنسان دون أن يتحقق الوعي بوجوده ومنه بالموجود دون أيِّ إشكال، فالذات تلتحم بموضُوعها، وعلى قدر هذا التلاحم تتحقق الدلالة وتتجدَّدُ في الوقت نفسه ما يعلِّلُ هذا التلاحم خضوع الذات إلى مبدأ نظام الحُكم المُسبق وهي تُعاين الأشياء والموضوعات التي تحيط بها، ولذلك فالأفكار التي تتوصَّلُ إليها ما هي إلا عملية التجريد لما كان في أصله محسوسا مُدركًا في نطاق هذا العالم الذي تعيش فيه الذات و«إن محاولة الوصول إلى تأويل مبرَّأ من أي تحيُّز أو فرْض مسبق هي محاولة عابثة لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضد الطريقة التي يتم بها الفهم» (مصطفى، 2003) وعليه فإن الفهم مرْجِعه من هذا الوجود الذي بفضله وبواسطته يستطيع الدارس أن يتحدث عن إمكانية الفهم، لأن ما يجري استيعابُه هو في جوهره ما أنتجه هذا الوجود وفق ما أقرَّه وعي الإنسان؛ وتبعا لذلك تصير الآلية الإسقاطية تشتغل من موضع استشرافي ؛ بحيث أن ما فهِمه هذا المرء يُمهِّد لإمكانات فهم جديد في المستقبل القريب ؛ إنه سيْرٌ دائم نحو الأمام؛ إنه تجاوزٌ مُسْتمِرٌ لذاته وتطلُّع لهذا العالم المحكي عنه، ما يُلخِّص أن الوجود هو الذي يُفسّر للذات ويُفهمها ما يحيط بها عبر ما يعتمده الذهن من خلال مُعترك الزمن، وينبغي قبل أيُّ توقُّعٍ للفهم أن يسبقه أثرُ الوجود، فكلما زاد ارتباط الذات بهذا الوجودِ ؛ أي بالعالم التي هي جزء منه فتتحقق فرضية الفهم، مما يسمح للمرء عن طريق الإسقاط أن يصل إليه بطريقة مُستمرة متوالية، بشرط وبفضل استعانته باللُّغة ولذلك فقد تجد هذه الذاتُ نفْسَها أما ثنائية مُتكاملة لا تستغني إحداهما عن الأخرى اللغة والوجود، انطلاقا من كون وظيفة اشتغال الفهم مشروطة بتحقُّق الوجود في وعي الإنسان عبر مضمار اللغة، لتكون بدورها صورةً من صُور هذا الوجود حتى تؤكده بطريقتها وتحْسِم في طبيعته، ولعلَّ الدليل الذي يستقر عليه هيدجر هو أنه لا يمكن أن تكون اللغة مُجرَّدَ وعاءٍ لحمل الأفكار ونقلِها للغيْر، فهي لا تؤدي وظيفة تواصلية فحسْب، بل ستكشف أن الكيان الإنساني برُمَّته يتوقف على كيان اللغة؛ إن اللغة بالتصوُّر الهيدجري لها كيانٌ مُستقل عن الذات الإنسانية؛ إذ أن هذه الذات هي التي تتوجه إليها حتى تستخدمها، كما لا يُمكن أن تكون هذه اللُّغة في الوقت نفسه رهينةً لما تُريده هذه الذاتُ أن تقوله سلفا «إنها (اللغة) لا تنقل الظاهر والمستور بوصفه شيئا مقصودا في الكلمات والجمل فحسب، وإنما هي تحمل قبل كل شيء الموجود بوصفه موجودا إلى المنفتح فحيث لا توجد اللغة مثلما هو الأمر في الحجر والنبات والحيوان، لا يوجد هنا كذلك انفتاح الموجود وتبعا لذلك انفتاح لما هو غير موجود ولما هو فارغ» (هيدجر، 2001) ما يُعلِّل ذلك هو أن اللغة لها صفة موضوعية وليست ذاتية، ما يؤهلها أن تكون حاملة للحقيقة، ومنه فكل أشكال المعرفة ينبغي أن تكون تحت سلطة الاستخدام، وهذا يعدُّ بمثابة حربا واضحة في توجُّهات هيدجر على الميتافيزيقا، على نحو قولك: بأن للقلم كينونةً وأثرًا في هذا الواقع وعلى ضوئه تتحقَّق دلالتُه، لكن ما إن تمَّ زوالُ حبْرِه فيُستغْنى عنه؛ فيفقد أُلفته لدى مُستخدِمِه، ولن يصير له دلالة، فعبره قد يتبيَّنُ للدارس أن الدلالة متوقفة على ظاهرة الاستخدام فهي شكلٌ من أشكال تحقيق وتجسيد صِلة الذات بموضوعها.

هذا يفتح مجرى آخر للسؤال: كيف يقرأ هيدجر الأدب؟ وإن كان في هذا الموضع يستهدف هيدجر الشعر من حيث الأولوية فللدارس مشروعية وإمكانية تغيير الاهتمام إلى منحى الرواية وفق صيغة كيف لك أن تقرأ الرواية وتؤوِّلها وفق الاعتبارات الهيدجرية؟، ولعلَّ الإجابة قد تُعيدُ الدارس نفسه إلى فكرة تحقُّق الحقيقة الفنية -تحت مُسمى الأدب- لدى المتلقي، بطريقةٍ تنفي عنه أيَّ سلوكٍ أو نشاطٍ صادرٍ منه، بقدر ما هو استجابة عفوية لما يُحدِثُه النصُ الأدبي في نفسه نتيجة استعداده أو استسلامه لهذا الوضع ؛ ولذلك ففي كثيرٍ من الأحيان يُلازم الأدب مقولة الفن، فتصير الحقيقة الفنية ماثلةً فيه، على أن تنكشف جماليتهُا لدى المُتلقي وفق ما يشبه الصورة التي يحصُل فيها انفتاح العالم أمام الذات لتتشكل فرضية انفتاح عالم الرواية أمام الذات القارئة وهو ما لا يمكن استبعاده في الحالة القرائية التي تجمع محمود أمين العالم بنص «شطح المدينة» فهو تعامل مع لغة الأدب بصفة عامة ولغة الرواية على وجه التحديد فبصياغة الرواية يكتسب مضمونها وجوده وغايته فهي «لا تخلق المضمون من ذاتها وبذاتها، ونما تحقِّقه من حيث أنها الأداة التي يحقق بها المضمون ذاته وقد تبدو الصياغة بهذا المعنى كما لو أن لها الأولوية والأولوية على المضمون، رغم أنها أداته ووسيلته .على أنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هي مشروطة بالمضمون وإن تكن أداته لتحقيق ذاته.» (العالم، 1994) وما قد يترتب نتيجة هذا الوقع هو مسعى القارئ إلى محاولة فهمه وتأويله وفق يقع تصويره في ذهنه، وبهذه الصورة تأتي القناعة بأن الرواية كمعطى إبداعي وإن كان مُحتفيا بخصوصيته البنائية فهو لا يخرج حتما عن إطار «العمل الفني بل هو ماثلٌ في كل عملٍ فني، ولكنه ماثلٌ أو حاضر ٌحضورًا متخفيًا وغير مباشرٍ، ولذلك فإن الكشف عنه يتطلب عملية تفسير هرمينوطيقي، يبدأ من وصف ذلك الحاضر وذلك المعطى المباشر» (توفيق، 1992) ما يؤهل ذلك أن تتجه عنايةُ المتلقي بالشكل الذي يتمظهر من خلاله العمل الروائي بصورة تلقائية حدْسِية فيتحول إلى وعي جمالي خالص ولعل شهادة جمال الغيطاني بقوله: «العلاقة الخاصة التي تربط بيني وبين الأستاذ محمد –علي فرحات– بالإضافة إلى أنه قام بدور مهم في اكتشاف بعض أعمالي، يعني أحيانا أنا أصدر رواية فتُقابل بصمتٍ أو يعني بتبدو غريبة، حدث هذا في رواية مهمة جدا، وهي «شطح المدينة» بعد أن صدرت حصل سكوت وصمت، وكأنها لم تصدر لمدة حوالي ستة شهور، وهو كتب في جريدة الحياة (اللندنية) يُنبِّه إلى أنه هذه الرواية ؛ يعني هو وصفها بالخطورة في الشكل والمضمون وبدأ الاهتمام واسعا بالرواية» لأصدق دليل على وجاهة هذا المنحى، فتتأكد فرضية تأويل رواية «شطح المدينة» عبر فهم «بوصفه تعبيرا عن رؤية لها مضمون»(توفيق، 1992) فهذه الرؤية هي التي تُشكِّل العالم فيتشكل الوجود بحضور الإنسان ووعيه بجميع الموجودات التي تحيط به، وقد يتعزَّز دورُ قارئ الرواية بشيء من المُفارقة لحظة استبعاد ذاتيته من فلك الرواية وحصيلة خبرته بها ليس قصدا أو تجاهلا منه، وإنما بمثابة السبيل الذي يمكنه من أن ينظر إلى الرواية في صورة غير مألوفة تختلف عما هو سائد في حياته اليومية لأن العمل الفني الروائي «بعد إنجازه ؛ يبقى هناك ليحفظ بواسطة شخص آخر يندهش عندما يشاهد اللامألوف في المألوف أي عندما يشاهد حدوث الحقيقة في العمل الفني، فيتخلص من روتين الحياة والنظرة الاعتيادية للأشياء، ويغوص في الانفتاح الذي يتخلل العمل الفني. إنه يمكث في الانفتاح أو الحقيقة التي تحدث في العمل الأدبي ؛ وفي هذا المكث فإن العمل يظهر طبيعته وحفظ العمل الفني لا يعني شيئا آخر سوى هذا»(توفيق، 1992) بمعنى حصول نوع من الخضوع يشبه التخدير الذي يمارسه ذلك النص الأدبي على هذا المتلقي؛ بما يسمح بطريقة أو بأخرى انتقال التجربة على نسق التلقي ضمن الحلقة التاريخية التواصلية بين الأفراد بحيث لا يتعلق الأمر بما حدث كفعل تاريخي، وإنما ما يُحقِّق كيانها التاريخي لدى المتلقي وهو يعايش هذا الظرف، فيصير التاريخ هو من قبيل ما تستشعره الذاتُ المتلقية من تجارب سابقة ينسخها التاريخ العادي، ولكن تحقِّقُها المُعايشة التي يرتضيها هيدجر، فأي تفسير للنص الأدبي ونحن نصوّبه في اتجاه النص الروائي يجب أن يتجاوز ما تصبو إليه الذاتُ القارئة والموضوع العيني السائد في تلك الرواية وفق صيغة تجعل اللغة الإبداعية توحِّد بين الذات والموضوع وفي هذا السياق تتلاقح الفلسفة مع الشعر فتدرسه بمنظار لغته (Kelkel، 1973) كما يمكن أن يقع مع حفيظة نص الرواية مادامت ثنائية الشعر والفلسفة قائمة على ما يمثل «إحياء جديدا لتقليد العقلية الألمانية (وخاصة مع شوبنهاور ونيتشه وهردر ولسنج) في التقريب بين الشاعر والفيلسوف حيث تتماوه الحدود بين الشعر والفلسفة، ويصبح من العسير أن نعرف أين تنتهي الفلسفة وأين يبدأ الشعر» (توفيق، 1992) فهذا استدعاء لما يمكن أن تحمله الرواية من تطلعات وتأملات هي أكثر تلاؤما مع عقيدة رواية «شطح المدينة» وهذه المقولة التاريخانية -إن صحَّ التعبير -التي أفصح عنها هيدجر، هي التي ستجد أثرها في أطروحات جادامير (Hans George Gadamer) بقدر من التعديل والتطوير .

فضاء الخطاب الروائي من منطق جادامير إلى

           أطروحة إيزر

إن المقاربة التي تُحقِّق إمكانية فهم النص الأدبي بما في ذلك النص الروائي تقوم أيضا على الاعتبار التاريخي عند جادامير على شاكلة المحاورة القائمة بين الماضي والحاضر، من منطلق أن بناء السؤال يستجيب إلى رهان الحاضر، بحسب المُتغيِّرات الحاصلة فيه، والقضايا المتصلة به، فيصير المعنى المُترتِّب عنه مِدعاة للإجابة المرسومة في فضاء النص تناسُبًا مع النقطة الزمانية التي يقف عندها المُؤوِّل القارئ في ظل صياغة أفق انتظار يكون مُستمدا من الراهن، وموصولاً بشكل تكاملي مع الآفاق السابقة بحسب التفسيرات والتأويلات التي راجت وتربَّعت على عرش الماضي (Gadamer، 1976)، ما يراعي هذا المنحى هو كون؛ ما من قارئ إلا ويفهم انطلاقا مما فهمه القراءُ السابقون عنه مع تحقيق مُقوِّم التجديد الذي يُشكِّله توقُّعه ومن ثمَّة الثقافة التي كونته؛ فأصبح يقرأ الماضي بعيون الحاضر، ومنه تتأكد فرضية أن فهْمَ الحاضر هو من وليد الماضي؛ إذا هناك اِستمرارية الحضارية بالقدر الذي تكشف عنه رواية «شطح المدينة» وهي تتطرق إلى منجزات فلاسفتها الذين «رتبوا أمورهم، فكانوا أول من حدّد مصادر الرياح وحاول كبيرهم التوصّل إلى عمل يحد من خطرها ... إنهم أول من حفر لإقامة أساسات البناء ... وأول من قسموا المباني إلى غرف منفصلة، وأقاموا الحظائر للحيوان وكشفوا عن مصادر المياه» (الغيطاني، 1992) وقد يستفيد قارئ هذه الرواية وهو يؤسِّس فهمه على الحقبة التاريخية المواتية عندما يعود إلى المؤلفات التي تطرقت إلى هذا العهد القديم من قبيل أن العصر التاريخي بدأ «في جهات الشرق الأدنى خلال الألف الرابع قبل الميلاد ومما يلاحظ أنه في خلال هذا العصر (حوالي سنة 3500 ق.م)حدثت هجرة سامية من شبه جزيرة العرب إلى الشمال الشرقي وصلت إلى بلاد ما بين النهرين واختلطت بالسومريين وأثرت في تاريخها ومع أن مصر بدأت عصرها التاريخي في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد ... كما أننا نلاحظ أن مصر وحدها هي التي قام فيها توحيد كامل في هذا العهد السحيق ولم تقم وحدة سياسية شملت قطرا بأكمله من أقطار الشرق الأدنى كما حدث في مصر»(عصفور، دت ط) ويحسن الإشارة إلى أن الشرق الأدنى القديم كان يشمل مصر والعراق وقد تثمر هذه القراءة التاريخية التأويلية بنتيجة في غاية الأهمية «منذ فجر الإنسانية تميّز الإنسان بالذاكرة أي باحتفاظه بخبرات الماضي وذلك بأن يحيا من جديد ما حدث له فيما مضى وظل كدأبه إلى اليوم يعيش في عالم، كل حادثة تحدث فيه تكون حافلة بذكريات وأصداء لما حدث من قبل» (إحسان سركيس، 1988) وهذا ما سعت الرواية في اشتغالها السردي حتى تظهره لقارئها بعد أن تدفعه في اتجاه التأويل الذي يضبطه المحقق التاريخي إن صح التعبير، مع إمكانية أن يكون هذا التفسير أو بالأحرى التأويل اللاحق مُصحِّحا لمسار التأويل الذي سبقه وهو المُفترضُ طبعا ؛ فأيُّ حُكمٍ مُسبَق سيُساهم في تحيين حركية المعنى وقد تكون هُوَّةٌ شاسعة الأمد بين ما تقوله الرواية وبين الوعيِّ الذي يستقبلها فإن قدمت الرواية باعتبارها إنجازا حداثيا «في مجتمع لم يُحقَّق معنى الحداثة» (دراج، 1999) على حدِّ تعبير فيصل دراج سيصيب هذه الرواية شبحُ الهامش، لأنها ببساطة حتى وإن قُرِأَتْ، فإنها تُقرَأ على سبيل ما هو منبوذ خارج سُلم القيم ؛ ولعلَّ هذا ما يُبرّر فكرة فيصل دراج كون الرواية العربية لم تلتق «في أزمنة ولادتها ولا في الأزمنة اللاحقة، ربما، بزمن اجتماعي يحتفل بحوارية المعارف المتعددة فوُلِدت كجنس أدبي مرذول، وتطوَّرت من دون أن تغادر هامشيتَها، ماعدا حالات قليلة. كأنَّ الزمن الهجين، الذي استولدها قد خلَّف وراءه وليدا مُعوِّقا يتحرك في فضاء اجتماعي ينكُر المُتعدِّد ولا يعرف حوارية المعارف المختلفة المستقلة بذاتها.»(دراج، 1999) كل ذلك قد يؤدي بالدارس إلى مسعى تتبُّع الآلية الجمالية على ضوء منحى التلقي، ففي الوجهة نفسها تأتي تطمينات إيزر عبر منفذ التواصل النفسي التفاعلي الأدبي على مستوى التلقي، بصرف النظر عن حركية التاريخ، إذ يُعدُّ نافذة حيوية وفق موقع القارئ الضمني (Lecteur implicite) من خلال الإضمارات والفراغات والتساؤلات التي يثيرها النص وهو يستهدف قارئه بصورة مباشرة أو غير مباشرة على حد سواء، وقد نتبيّن ذلك من نص رواية «شطح المدينة» مبدئيا تتحدد خريطة القراءة بالنظر إلى جملة من المعلومات التي تغطيها صورة الغلاف استنادا إلى الصورة التي تهيكلها، اسم ولقب الكاتب إلى دلالة عنوان الرواية ليكتشف القارئ تناغم موضعي ومعرفي وأيديولوجي بين ثنائية -جمال الغيطاني وشطح المدينة - فالنص الذي يسير عليه القارئ يمر عبر فقرات الرواية وصفحاتها والعناوين التي تتخللها على سبيل الذكر لا التحديد: الأمور المرعبة عند إعادة البناء ص 11 –لمحة وجيزة ص 17– المقهى وصاحبه ص 31،كما يمكن للقارئ أن يتورط في شأن بعض الإشكالات أو الأزمات أو التساؤلات التي تثيرها سيرورة الوقائع على شاكلة ما يقوم مقام اللّغز لدى القارئ الذي قد يسعى قدر جهده لأن يجد مفتاح حلّه، وهو ما حدث بفصل من الرواية بعنوان «المسائل السبع» حيث يأتي على لسان السارد على سبيل الإشارة: «ما الطائران المحومان دائما، لا مستقر لهما ولا محط ولا نقطة إقلاع أو وصول، لا مأوى ولا فرع، إلى الأبد يحوم كل منهما في أثر الآخر؟ » (الغيطاني، 1992) فخلاصة ما سبق أن أيَّة إستراتيجية تأويلية قابلة لأن تشتغل في الحيز الروائي المستهدف في ظل سياق تشكيله محافل تلقيه، كلُّها تجتمع لتُنتج تأويلا لا يرضى بالفراغ، ويُهتَدى إليه بعُنصر الترميز وتكثيف الغموض في مستوى الفكرة والصورة أيضا، فوحدة المعنى هي تشكيل لصورة بأي ظرْفٍ استدعاه نظام الواقع وما يدفع به نظامُ التعبير في توسيع مِخيال الإبداع مع سعة مخيال المتلقي قارئ رواية «شطح المدينة» .

أطروحة قراءة محمود أمين العالم

لا ضرر في استهلال هذه القراءة بالاستعانة ببعض المفاهيم التي يهتدي إليها محمود أمين العالم وهو يحيط بمدلول الرواية وسياقها الإنتاجي والوظيفي السائد في عالم الرواية الحديثة بقوله: «حقا إن الرواية في عصرنا الحديث أي منذ بداية المرحلة الرأسمالية، تتميز بخصوصية بنائية كجنس أدبي وهذه الخصوصية البنائية هي تعبير إبداعي عن واقع نمط الإنتاج الرأسمالي السائد بما يتسم من بروز للأنا الفردية والأنا القومية ومن سيادة للبنية الاقتصادية التبادلية التنافسية ... وتفاقم للأزمات الفكرية والنفسية والأخلاقية بحثا عن القيم الإنسانية المفتقدة في هذا العالم الجديد» (العالم، 1994) قد يلتمس القارئ الدارس المنزع الأيديولوجي لدى محمود أمين العالم الذي يؤثر على سيرورة مجريات هذه القراءة النقدية المتشبِّعة بالمنهج الماركسي وفكرة العداء الموجهة ضد النظام الرأسمالي، والكيفية التي على أساسها تظهر بنية الوعي المُلتمس في العوالم السردية التي تحكي عنها الرواية كجنس أدبي إبداعي مع إقرار بوجود الثقل المادي الاقتصادي على حساب القيم الروحية التي يفتقدها عنصر الآخر وهو أمر غير مبالغ فيه أما في شأن خصوصية الرواية العربية وفق خيار نموذج الرواية المصرية بحسب تطلّعه، فقد اقتنع أنها مارست عنصر الترويج للأنا القومية دون إقصاء تأثير الشكل الغربي على سياقها البنائي والتطوّري، ولعل ثنائية التراث وتفعيل التاريخ هي التي أنقذت هذه الخصوصية التي تتمتع بها الرواية العربية الحديثة، يؤيد هذا المنحى قوله : «وفي روايات جمال الغيطاني عامة نجد مختلف أنماط التراث العربي الإسلامي، التاريخي والديني والثقافي على السواء، نجدها مادة حية لصياغة أبنية روائية جديدة ذات زمنية متداخلة تعبر تعبيرا إبداعيا نقديا عميقا عن ظواهر القمع والفساد واغتراب الإنسان في واقع الخبرة العربية المعاصرة» (العالم، 1994) بما من أهم الأسئلة الوجيهة في هذا المقام :ما الذي يُحرِّك تأويلية محمود أمين العالم في رواية «شطح المدينة» ؟ بالرغم من كون الإجابة بهذا الصَّدد حمَّالةَ أوجُه، قد تعود إلى خياراته السردية واستراتجيات بناء النص الناجح في نظره، في ظل كيان تضارب المقاصد ومخرجات اللغة التي كتبت بها، وهي واقعة تحت منظار المنهج النقدي الذي يرتضيه محمود أمين العالم لنفسه.

توصيف نهج القراءة

يجوز للدارس أن يصف قراءة محمود أمين العالم لهذه الرواية بالبانورامية في طريقة نسْجِها وتوليف حبكتها، لارتباط أحداثها بفضاء واحد مُغلق ألا وهو «المدينة» مما يُوفِّر إمكانية الرؤية الشاملة لمُجمل الأحداث الواقعة بها؛ بكل جزئياتها، إنها ليست كبقية المدن فتملك خصوصيتها إذ «تقع على الطريق الرئيسي المؤدي إلى الغرب. كل نصف ساعة يقصدها قطار، إنها المدينة الوحيدة بعد العاصمة الاتحادية التي تقف بها كل القطارات العابرة حتى الدولية منها المُتًّجهة أو القادمة عبر الحدود، جاء في كتيبات إدارة تنشيط السياحة التابعة للبلدية أن ذلك لأهمية المدينة بالنسبة للموقع، ولما تتضمنه من آثار قديمة وتراث معماري ذي خصوصية وفرادة، ولانخفاض نسبة الحوادث» (العالم، 1994) ضف إلى ذلك أن هناك مشاهير من أدباء وفنانين وعلماء لم يأت ذكرُ أسمائهم يكونوا قد درسوا بالجامعة المُنتمية جغرافيا لهذه المدينة، كما يحق لهذه الرواية أو لهذه المدينة على حدٍّ سواء أن تأخذ المُنعطف التأويلي المُناسب لها بعد تحديد الموقع الجغرافي لها، وكثافة حركة السفر بها ؛ منها وإليها، إلى جانب الآثار التي تحويها، وتبقى في خيار المسلك الوحيد الذي يصل من خلاله المسافر إلى الغرب، ويبدو أنها في المقام الأول وقبل أي اعتبار آخر عاصمة الشرق بامتياز والتي يقصد منها دون مُنازع مدينة «القاهرة» موطن عيش وعشق صاحب الرواية جمال الغيطاني .

يصف أحد المتخصصين في علم العمران والمدينة جغرافية القاهرة من موضع أن القاهرة الكبرى التي تمتد «بشكل مباشر في حدودها القصوى بين هضبة الأهرام غربًا والقاهرة الجديدة شرقًا وبين حلوان جنوبًا والقناطر الخيرية شمالً، أي إنها تمتد في محاور تبلغ أطوالها 28.1 كلم، في ما بين الشمال والجنوب، ونحو 41.5 كلم في ما بين الشرق والغرب» (مصليحي، 2017) فهي صاحبة الحضارة ومنهل تفوُق الغرب بفضلها هذه محطة أولية في العتبة التأويلية، وتتبعها محطات أخرى، ولعل علامة الترقيم -و أقصد في ذلك النقطتين المتتابعتين- التي وردت في مُستهل نص الرواية، والتي أخذت التفات محمود أمين العالم، فهي الأخرى تعكس صفة الرمزية عبر المتتالية الخطابية التي تنتجُها ؛ ما يعني أن لنص الرواية أو رواية المدينة ما يسبقها وما قد يأتي بعدها، في صورة ترابط أحداثها بحيث يتعذر تحديد منطلقها أو معرفة مسار نهايتها بلغة هادفة، ويبدو أنها جاءت لغرض مركزي، يتمثل في تحريك «تساؤل مُلِّحٍ يبحث عن إجابة، عن مشروع، بهاتين النقطتين المفتوحتين على أفق مجهول»(العالم، الاغتراب في المكان الضِّد: قراءة في رواية شطح المدينة، 1991)كما يُمكن لأي تساؤُلٍ على هذه الشاكلة أن يثير بدوره إجابة في ثوب تأويل يؤكد استمرارية الحدث في رهان الحاضر ؛ حتى وإن كان يبدو من صميم الماضي فعندما زواج الكاتب جمال الغيطاني بين الفعل المضارع والجمل الاسمية، كما هو ماثلٌ في هذه الفقرة «لكن أغرب ما يتردد بين رجال المدينة ونسائها القدامى، أن المُحارِب القديم لم يمت، وإنه باقٍ حتى الآن، حيٌ يُرْزَق، ويرجع ذلك إلى ترتيب مُحكم أعدّه أحفاد الفلاسفة بحيث تدَّخَلُوا في دورة الوقت، فأوقفُوا اللحظة عند دخوله» (الغيطاني، 1992) وفق تواتر الأفعال التالية على نحو (يتردد، لم يمت، حتى يُرزق ) فإنها تؤيد الوظيفة الدلالية للفعل المضارع عبر مساحة الرواية ما يجعل الحدث مُنطلقا من الماضي ومستمرا على حاله في الحاضر، وهو غيرُ منتظر أن يتوقف مع استشراف المستقبل، مع تأكيد هذا الارتباط المِفصلي بين الرواية والمدينة ذو الدلالة والقيمة والرمز .

التشخيص التأويلي

الرواية تبوح من عنوانها بصوت المدينة، وأن بطل الرواية المُسمى في عُرف نصية الرواية بـ «صاحبنا» فد حلَّ بها فـقدـ «جاء بدلاً عن صديق له كان مدعُوا من جامعة هذه المدينة للمشاركة في سبعة أيام من الاحتفالات بمُناسبة مرورِ تسْعِ قُرون على إنشاء هذه الجامعة» (العالم، 1991) وعلى ما يبدو أنه باتخاذ هذه المدينة تسمية «المكان الضد» يكون قد خرج هذا المكان -المقصود بالمدينة- عن إطاره المألوف، فهو يسير عكس ما تطمئن له النفس البشرية في عادتها، فإن كانت المدينة مبلغ اجتماع الناس في روح الطمأنينة وحب الاستئناس فقد ذهبت -في سياقها توظيفها الإبداعي- عكس هذا المنحى لأنها تقوم على سُّنَّة الجمع بين المتناقضات، فالرجلُّ -شخصية الصاجب - أتى من الشرق الآمن إلى مدينة تعُجُّ باللُّصوص الناقمين على كل غريب عن المدينة وهو لا يدري ماذا ينتظره من سمات هذا التناقض على وجه الملموس «الواجهة عتيقة وداخل المبنى حديث جدا، تعْرض الواجهةُ ثلاثة طوابق، بينما يتكون البناء من ستة، الحفاظ على الطابع المتوارث تنظمه قوانين صارمة، واضحة، لا تحتمل التفسيرات الخاطئة، أو التأويلات سيئة القصد، أو الخرق المتعمد، المضمون جليٌّ جدا، احتفِظْ بالمظهر القديم وأتبعه، وأفعل في الداخل ما شِئت»(الغيطاني، 1992)، ولعل الاعتقاد السائد أن مشاركة هذا البطل المدعو كاحتياطي -إن صحَّ التعبير- في المؤتمر الاحتفالي الذي تُنظِّمُه هذه الجامعة هو مربط الفرس، فالأمر لا يبشر بالخير على الإطلاق بالنظر إلى ما وقع له فهو الضيف غير المرغوب فيه «فبعد انتهاء الجلسة الأخيرة للمؤتمر، وبالتالي نهاية الرحلة والاستعداد للعودة إلى الوطن، يكشف صاحبُنا أن ما كان يخشاه قد وقع بالفعل، لقد اختفى جوازُ سفره الذي يضعه تحت رأسه عندما ينام ويحافظ عليه حفاظهُ على نفْسِهِ»(العالم،  1991) ما جعله يفتقد هُويَّته وكأن جنسيته قد سقطت بهذا الضياع، إذ يتعذر إثباتها من الناحية الإدارية، فهذا الوضع يكشف عن أمرين متلازمين فالأحداث والتوصيف سيُشعِران القارئ أنه أمام وضع التعارض بين الباطن والظاهر، فالمدينة تُغيِّر من شكلها من حين إلى آخر والشخصيات هي الأخرى تتغير لا تبقى هي هي، ولا تأخذ بنفسها على مظهرٍ واحدٍ ثابت، وفي ذلك مطلبُ التأويل على وجه الضرورة، أما الأمر الثاني يُوضِّح سعْيَّ الذات -شخصية البطل- إلى معرفة ما يحيط بها، فأيُّ قارئٍ يعتد بهذا الشرط سيتحوّل دون أن يدري إلى مَدارِك القراءة الفينومينولوجية بامتياز بمجرد أن يحاول فهم ما يجري بين الذات (الشخصية الرئيسية) وموضوعها (وقائع المدينة)، بالرغم من كون هذه الشخصية حريصة أشد الحرص بأن تحافظ على هيئتها وخصوصيتها، لأنها تنزع في قريرة نفسها إلى الثبات والاستقرار، وهذا مبرِّرٌ كافٍ لمحمود أمين العالم أن يثير مثل هذا الطرح الصائب الكاشف لما يحصل في هذه المدينة حيث يقول: «وعندما يزداد توغُّلنا في» الرواية –المكان» سنجد أنبعض شوارعها وأبنيتها تُغَيِّرُ فجأةً من مواقِعها وأشكالها، بل قد تختفي وتتبدَّل بعضُ الشخصيات بشكل شبه سحري » (العالم، 1991) فهي لا تشبه أية مدينة بالرغم من وجود بعض أهل الشرق يعيشون فيها، الثنائية الأخرى التي يتعذر تجاوزُها في نظر الناقد هي ما بين هذه المدينة والجامعة الموجودة هي الأخرى في أحضانها، فالمدينة وفق مؤسستها البلدية تعرض لكل ما هو سلبي في نظام تسييرها ومُجريات انشغالها، تظهر فيها البيروقراطية ببشاعتها وزيف السلطة التي تُديرها بطريقة عشوائية، مع استخدام شعارات فارغة من محض الدعاية لا غير، بخلاف الجامعة التي تحثُّ على العلم وفهم عمق الأمور بدراية العارفين بها، ما يؤدي إلى ما يشبه السؤال الفلسفي الذي يبحث في أصل الأمور حتى تتبدى الحقيقة أكثر أو من قبيل السؤال الذي يترفع عن الأوهام وينظر إلى الأمور بواقعيتها الملموسة «من هو الأصل في المدينة الجامعة أم البلدية؟ ... لمن السلطة في المدينة للجامعة أم البلدية» (العالم، 1991) فالجامعة وراءها من الناحية السياسية حزب راديكالي ما يجعلها تساند القضايا العادلة في العالم وعلى رأسها القضية الفلسطينية ومختلف القيم الإنسانية النبيلة في المُقابل توجد السلطة البلدية التي تمتثل إلى إملاءات الحزب الرأسمالي الذي يخضع لهيمنة القوة العظمى في العالم ؛ أي أمريكا وكل خطواتها لا تراعي سوى ما يقضيه الواقع البراغماتي من وضعه السيِّئ فقط، تتأكد هذه الحدية الثنائية «وثائق الجامعة تؤكد أن الحفاظ على الطابع (رونق المدينة المعماري)يرجع الفضل فيه إلى مهندس الجامعة، بينما تُفنِّد البلدية ذلك، وتؤكد أن الخطط والمشاريع مجرد حبر على ورق بدون بلدية صارمة، واعية، يتمتع رجالها بحّس تاريخي وثقافي، وحب عميق للمدينة» (الغيطاني، 1992)ما يُنشده محمود أمين العالم ضمن مسار هذا الوضع التأويلي حصولُ نوعٍ من الانسجام بين اضطرابات المدينة وطول أمد هذه الرواية- شطح المدينة- ما تقوله الرواية هو ما تفصح عنه المدينة بصريح العبارة لحظة التحام المعقولية باللامعقولية، وربط ما هو عقلاني بما هو سحري أسطوري، ومع أزمة الهُويَّة التي عرفها البطل -صاحبنا- فبقي مُدافعا عنها بسلوكاته وتقاسيم وجهه ومواقفه، لذلك ارتضى محمود أمين العالم تأويلا خاصا ؛ ارتضاه لنفسه، يتضح ذلك في قوله :«على أنه في النهاية لا هُويَّة ولا خصوصية، ولا حرية بغير سيادة العقلانية والموضوعية والألفة والمحبَّة في منطق العلاقات بين الأشياء والبشر » (العالم، الاغتراب في المكان الضِّد: قراءة في رواية شطح المدينة، 1991)و ربما ضمن هذا المنظور الذي قد يلازم مُؤلِّف الرواية «جمال الغيطاني» والناقد «محمود أمين العالم» -رحِمهُما الله- ذلك الُحلم الأفلاطوني بالتوْقِ إلى جمهورية فاضلة تؤمِّن منطق التوافق والثبات والاستقرار لكل ذات إنسانية في المطلب والأمل، فتكون حياة مُطْمئنة ومُستقرة، لم يكن التأويل ضمن مسلك الناقد إلا محاولةً منه لتوضيح ما هو مُلتبَس أو ما يصل إلى تصحيح المفاهيم والمواقف، والتخلُّص من عبء المآخذ كيف تكون المدينة الحقة ؟ ما هي صفات نجاعتها؟ من هم رجالها؟ و أي مكانة للعلم في إدارة شؤونها ؟،فلا يكاد ينسحب التأويل عن المغزى الحسن، وتقديم مناحي القراءة الإيجابية للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية على منوال ما عُرِضَ في هذه الرواية ونقد ما ينبغي نقده على ذكر عموم هذه السلبيات.

خاتمة

يبدو مما سبق أن أدبية أي خطاب تقع في الغالب على وقع تلقيه، فالمتلقي هو الذي يُقرُّ إن كان النص نصا أدبيا بحق لا غبار عليه يلتزم بأصول جنسه وخصوصيته بما في ذلك الاعتبار الروائي، فالأمر بهذه الصورة يكون قد انفلت من المبدع لصالح تلقيه وتأويله والفينومينولوجيا بصفتها العلمية حسب منظور هوسيرل هي بمقدورها شرح تموقُع الذات من محصلة فهمها للنص كأداة وقيمة في الوقت نفسه، وحيث يقع اندماج بين الذات ِو عالمها ضمن الأطروحة الهيدجرية، سيتحقق ذلك أيضا على مستوى القراءة الروائية الفعالة، ولا مانع في سياق ذلك اشتغال ثنائية السؤال والجواب ضمن حركية فهم النص بحسب تطلع جادامير وو مع الفعالية التأويلية التي أثمرتها قراءة محمود أمين العالم لنص جمال الغيطاني رواية «شطح المدينة «، وضحت لنا عملية كشف الدافع التأويلي المنوط تحقيقُه استنادا إلى اللُّغز الذي تُشيِّده هذه الرواية ضمن بعد يكاد أن يكون عجائبيا أسطوريا يلهمه المصدر التاريخي والمنجز التراثي، بأسلوب ولغة عرضت الأحداث والمواقف ضمن خانة تعارض صراع الأمكنة والأزمنة مع ميزة التفوَؙق الإبداعي الذي يسمح بمُبادرة تحيين المعنى متى أتت الفرصة السانحة، وقد يأتي تثمين هذه الدراسة -دون مبالغة ولا تكلُّف -في مجرى تحقيق جُملة من الأهداف، على سبيل أن تُفهم الفينومينولوجيا باعتبارها الوسيلة المُثلى لإعطاء التجربة الإنسانية معنًى ومن ثمَّة قيمة أخلاقية لا مفر من استقدامها مع كل قراءة وتأويل، كما يبقى فهم حقيقة التنظير على الساحة الهرمينوطيقية بالكيفية التي يحصل بها الإدراك الفعلي لمكانة الوعي في أبهى تجلياته، فهو وعي بالإنسان، ووعي بالحياة، ووعي بالرواية،ووعي بالنظرية وحُسن الموقف المتأمل، فوفق هذا المنحى الاستخلاصي لنتائج البحث، سيتأكد بأكثر فعالية ويقينية الدور المعرفي على صعيد فهم الذات المؤوِّلة بإمكاناتها الخلاقة وتجاربها النفسية والاجتماعية الغنية بثقافتها وتاريخها كما تنضبط أكثر حدود التأويل للنص المُستهدف ضمن تحليلات قارة مُطمئنة للذات المتلقيةفي سياق مناخها الثقافي والفكري في صورة تتقوى فيها السمات الجمالية لهذا الصنف الحركي المجدّد لنظام التأويل الروائي الذي تتجاذب خيوطه بين أولويات المعرفة والحقائق العرفانية كما ترسمه التجليات الصوفية في فضاء الارتحال والاغتراب السائد في رواية «شطح المدينة» بكل عنفوان.

المراجع

سعيد توفيق الخبرة الجمالية: دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، المؤسسة الجامعة للدراسات و النشر و التوزيع بيروت، ط 1992

فيصل دراج، نظرية الرواية و الرواية العربية،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط 1 1999

وهبة أحمد رومية،شعرنا القديم و النقد الجديد، سلسلة عالم المعرفة ع 207، المجلس الوطني للثقافة و الآداب، الكويت مارس 1996

حميد سعيد، الكشف عن أسرار القصيدة، الهيئة العامة المصرية للكتاب القاهرة، ط 2 1994

محمود أمين العالم، الاغتراب في المكان الضِّد: قراءة في رواية شطح المدينة مجلة «إبداع»، مصر، ع 11 نوفمبر، 1991

إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والآداب الكويت، ع2 1978

محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، دار المعارف القاهرة، ط 1981

جان غراندان، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، تر: عمر مهيبل منشورات الاختلاف، ط 2007

جمال الغيطاني، شطح المدينة. دار الشروق. ط 1 1992. القاهرة

فولفغانغ كايزر، العمل الفني اللغوي: مدخل إلى علم الأدب، تر: أبوالعيد دودو، ج 1، دار الحكمة، الجزائر، ط فيفري 2000

عادل مصطفى، فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا، دار النهضة العربية بيروت، ط 2003

فتحي محمد مصليحي، المدينة العربية و تحديات التمدين في مجتمعات متحوِّلة القاهرة الكبرى مثالا، مجلة عمران، مصر، المجلد 5، ع 20، سنة 2017

إدموند هوسيرل، تأملات ديكارتية، تر: نازلي إسماعيل، دار المعارف، القاهرة، ط 1978

مارتن هيدجر، أصل العمل الفني، تر: أبوالعيد دودو، منشورات الأختلاف الجزائر، 2001

 

Stanislas Breton, conscience et intentionnalité Emmanuel Vitte Editeur, Paris 1956.

Terry Eagleton, Critique et théorie littéraire trd : Maryse Souchard, Ed PUF, Paris 1994

Hans George Gadamer, Vérité et méthode, Ed seuil, Paris ,1976

Martin Heidegger, lêtre et le temps, trd : Rudolf Boehem- alphonse DE WaelhensEd Gallimard, Paris,1960

Edmund Husserl , Problèmes fondamentaux de la phénoménologie, Jean English Ed PUF,Paris 1991

Wolfgang Iser, lacte de lecture, Ed pierre Mardaga, Bruxelles ,1976

Gilles Philipe & julien plat, La langue littéraire Ed Fayard ,Paris ,2010 .

René schérer& Arion Lothar Kelkel, Heidegger ou lexpérience de la pensée Ed Seghers, Paris 1973.

PierreThévénaz, De Husserl a Merleau-Ponty, Ed De la braconnière,Neuchâtel 1966.

@pour_citer_ce_document

حفيظ ملواني, «مقاربة تأويلية في رواية «شطح المدينة لجمال الغيطاني»: أطروحة الناقد محمود أمين العالم »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 170-182,
Date Publication Sur Papier : 2023-06-26,
Date Pulication Electronique : 2023-06-26,
mis a jour le : 26/06/2023,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=9396.