الهوية بين التأصيل المعرفي والمثاقفة الحضاريةIdentity between cognitive rooting and civilized acculturationL’identité entre l’enracinement cognitif et acculturation civilisée
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 20-2023

الهوية بين التأصيل المعرفي والمثاقفة الحضارية
L’identité entre l’enracinement cognitif et acculturation civilisée
Identity between cognitive rooting and civilized acculturation
ص ص 195-211
تاريخ الاستلام 2020-07-15 تاريخ القبول 24-01-2023

مكي سعد الله
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يسعى هذا البحث إلى تبيان مفهوم الهوية عبر تمظهراتها في مختلف الحقول المعرفية، فهي تشكل بمكوناتها مرآة لانعكاس الذات في مرآة الغيرية والاختلاف بغرض بناء مثاقفة ندية تحترم القيم الإنسانية وتساهم في البناء الحضاري العالمي. فقد مهَّدت العولمة وفتوحات الثورة المعلوماتية في عالم الاتصالات، على تقارب الشعوب وفرضت صيغًا متعددة للتواصل والاحتكاك الذي أنتج تعددية في الهويات وتنوعًا في الخصوصيات الثقافية، مما يدفع تارة للتعاون والتسامح والانفتاح ضمن منظومة قائمة على قواعد الاحترام المتبادل والاعتراف بالآخر، وتارة أخرى إلى الصدام والتنازع، خوفا من التماهي والانصهار والضياع الهوياتي. لقد اتصل الرحالة العربي بالغرب الأوروبي بهدف تطوير الذات والاطلاع على المنجز التقني والتكنولوجي الغربي، فكانت الصدمة الحضارية التي شكلت مفارقة في بناء المثاقفة بعدما تحولت الهوية ومكوناتها إلى آلية ومرجعية محددة لعلاقة الأنا بالآخر

Cette recherche vise à clarifier le concept d’identité à travers ses manifestations dans divers domaines de la connaissance, car elle constitue avec ses composantes un miroir de réflexion sur soi dans le miroir de l’altéritéetde la différence afin de construire une acculturation qui respecte les valeurs humaines et contribue à la construction civilisationnelle mondiale. La mondialisation et la révolution dans le monde des communications ont ouvert la voie au rapprochement des peuples et ont imposé de multiples formes de communication qui ont produit une pluralité identitaire et une diversité de spécificités culturelles. Le nomade arabe a contacté l’Occident européen dans le but de se développer et de voir l’accomplissement technique et technologique occidental, de sorte que le choc des cultures a constitué un paradoxe del’identité et l’acculturation

This research seeks to clarify the concept of identity through its manifestations in various knowledge fields, as it constitutes with its components an image of self-reflection in the mirror of other and difference in favor of building an acculturation that respects human values and contributes in world civilizational construction. Globalization, as well as information revolution breakthroughs in communications fields have paved the way for people’s rapprochement and imposed multiple forms of communication which have produced a plurality of identities and diversity of cultural particularities.  Which has led sometimes to cooperation, tolerance and accessibility within a layout based on mutual respect and the other’s acceptance, and at other times to clash and conflict, fearing identification, fusion and loss of identities. The Arab traveler contacted the European West in order to achieve Self-development and access to western technical and technological achievement. It was the cultural shock that posed an issue in culture’s construction after the identity and its components were transformed into a mechanism and a reference determining the “ego with the other” relation

Quelques mots à propos de :  مكي سعد الله

Dr. Mekki Saadallah     جامعة تبسه، الجزائر saadallah_58@yahoo.fr

مقدمة

منذ كوجيطو سقراط «اعرف نفسك بنفسك» وهاجس الهوية يشكل محورًا مركزيًّا في عمليات بناء الشخصية وتحديد الانتماء وتجسيد علاقة الأنا بالآخر ورسم رهانات الغيرية وثقافة الاختلاف.

فكانت مسألة الهوية ومكوناتها من لبنات الصراع بين الشرق والغرب، والتأسيس والتأصيل لمثاقفة ندية تستند على الاستثمار في المُشترك الإنساني والمُنجز العالمي، كما كانت أطروحات صراع الحضارات تتمحور وتتمركز في فضاء الهوية والخصوصية الثقافية ومدى صمود الهوية وتكيُّفها وتفاعلها مع الاختلاف والمتغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية العالية، في ظل ثقافة معولمة تفرض نموذجها الثقافي من خلال معادلة المنتج الايجابي والمستهلك السلبي.

فقد أدخلت العولمة مفهوم الهوية في إشكالات وتساؤلات منهجية ومعرفية جعلت منها نواة للصراع الحضاري، من خلال مقاربتها ومعالجتها ومساءلتها في علاقاتها المركبة بين الانفتاح والانتماء وبين الخصوصية والعلمية وبين الثبات والتحوُّل وبين المركب والأحادي، وفي علاقاتها المتعددة بين الأنا والآخر.

وبناءً على مختلف الفرضيات أنتج خطاب الهوية، على اختلاف حقوله المعرفية وتنوُّعهاأنساقا ثقافية وفلسفية إناسية تحاول الكشف عن مختلف التمظهرات وتعدد الصور والأنماط، وضبط المكونات مع محاولة تحديد الثابت والمتغير، في ظل فضاءات التنوع والتعدد الثقافي والعرقي.

يهدف البحث، في بعده العام، إلى تحديد مصطلح الهوية معرفيا بعرض مختلف الدلالات المعجمية والفلسفية ومقارنتها للوصول إلى ضبط مفهوم مشترك بين مختلف الميادين المعرفية، لينعطف البحث إلى دراسة الهوية في المتن الترحالي العربي كوعاء فكري للقاءات الأولى بين الأنا المحلية (الهوية الوطنية) وصراعها ومواجهتها مع الآخر/المُختلف.

اتبع البحث المنهج التحليلي الذي يسعى إلى مقاربة النصوص وتحليلها ضمن رؤى ثقافية متنوعة ومتعددة لإنتاج دلالة وظيفية وجمالية تكشف عن تجليات الهوية في بعدها الإنساني ضمن سنن التدافع الحضاري.

 

الهوية

تحتلُّ إشكالية الهوية حيِّزًا معتبرًا في البحوث والمقاربات الاجتماعية والاناسية والنفسية والفلسفية والأدبية وكذا التاريخية، وقد تتجاوز الحقول المذكورة حصرًا لا عدًا، لتلامس حقول وميادين المعرفة ومساقات العلم المختلفة، باعتبارها مسألةً متصلةً اتصالًا وجوديًا «بالأنا»، في تحديد جوهره وضبط مكوِّناته التي تدفعه نحو تحقيق الذات، كما ترسم رسالته ووظيفته في الوجود، وتشكِّل أيضا إستراتيجية في التعامل والتفاعل والتكيُّف مع «الآخر/المختلف».

كما تضع الهوية قواعد وأسس العلاقة التبادلية (réciprocité) بين الأنا وبين الآخر، بحكم أنَّهما الطرفان المركزيان للعملية الحضارية الإنسانيَّة، فلا يمكن أن تدرك الهوية خارج العلاقة بالوجود الإنساني الطبيعي تجلياته التواصلية المتعددة.

إن الهوية ليست مُعطًى جاهزًا أو مفهومًا قارًا وساكنًا وجامدًا، بل هي بُنية في حركيَّة متواصلة وسيرورة دائمة، وفي تفاعل جدلي مع متغيرات الزمان والمكان وكل المكوِّنات ولَبِنات البناء والتأسيس، فهي تتشكَّل وتتحوَّل وتتلوَّن وتتكيَّف مع الأوضاع والأحداث سلبًا وإيجابًا.

ولعلَّ هذه المعطيات مجتمعة هي التي دفعت بالباحثين والمشتغلين بقضية الهوية إلى الإقرار بصعوبة تعريفها، فهي موضوع إنساني شغل الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء قديما، وأثار اهتمام الدراسات الإنسانية والاجتماعية حديثا، وتجاوز الدلالات اللغوية المعجمية ليحلِّق في أجواء الفلسفات المثالية والميتافيزيقية وآفاقها.

وكلما ازدادت الدراسات وتعمَّقت المقاربات كلَّما تبحَّر المفهوم في أمواج الغموض والتعقيد وأصبح أكثر ارتحالًا وتحيزًا، وغرق في التنظير والتأويل «الهوية مفهوم متعدِّد المرجعيات، متنوِّع ومُرَّكب، لهذا اعتبره بعض الكتَّاب من المفاهيم الأكثر تغيُّرًا وبعدًا عن الثبات» (Barus, Eugene, 2007) 

وترجع عقبات التعريف إلى دخول المصطلح فضاءات الأيديولوجيا ومقاربات الأنثربولوجيا، التي منحت سلطة التأويل آليات التعبئة والشَّحن، فخضع المفهوم بصفته وعاءً للأنا والذات  والشخصية والمجتمع لاحتواء كل المكوِّنات التي يُعتقد أنها ركائز للهوية ودعائمها فالتعددية المقارباتية دفعت إلى تنوع وتعدد الدلالة« مفهوم الهوية يندرج ضمن سياق معرفيّ، وحقل لغوي مُركَّب، يشهد استعمالًا وتداولًا متنوعًا، وهنا تكمن صعوبة تحديده والإحاطة به» ( N.Osu, Garric, Toupin, 2010)

تحوَّلت كل محاولة للتعريف أو البحث في الماهية إلى تشكيلٍ مصطنعٍ لبناء مُهيَّأ وجاهز مستقبلًا، كتصوِّر ذهنيّ يبحث عن تجسيد واقعي من خلال خطاب موجهٍ ومُتحيِّزٍ، ولعل هذا ما دفع ببعض الباحثين إلى الدعوة إلى ضرورة التخلُّص من الموضوع كمبحث وإشكالية وقضية، لأنها تحوَّلت من بُعدها الكياني الفكري إلى تمفصلات أيديولوجية تكرِّس الفكر العنصري    وثقافة العنف والإقصاء.

إنَّ انتشار المفهوم في البحوث والدراسات تجاوز حجمه الفكري ، ممَّا يستدعي الدعوة إلى الإنتهاء منه، فالهوية «حقيقةٌ، موجةٌ جارفة تلك التي حملها المفهوم الهوية، فقد غمر في عقود قليلة كل العلوم الإنسانية سواء تلك المتعلقة بسيكولوجية الفرد أو الدين وعلاقات الذكور والإناث أو تلك المتعلقة بالمهن والحياة العائلية بالإضافة إلى الهجرة والصراعات الطائفيَّة، فهي كلمة سحرية» (Halpern, 2004) وبحكم أن الهوية عنصر متحوِّل ومتغيِّر في بناء الجوهر الوجودي للإنسان وأحد محدِّدات كينونته، أصبح البحث عن تعريف علمي ضرب من المستحيلات، أو من المقاربات العبثية، فقد تحوَّلت الهوية من صفات ومميزات بسيطة تميِّز كائناً عن آخر أو مجموعة بشرية عن أخرى إلى صناعة وتشكيل يتغيَّر وفق الأوضاع السياسيّة والاجتماعية والثقافية والمقاربات الأيديولوجية والأكاديمية التي يتعذَّر معها (أو يستحيل) تحقيق الموضوعيَّة.[1]

تتقاسم الهوية أبنية ومكوِّنات تتفاوت من حيث المعطيات الاجتماعية- ثقافية والمتخيَّل كعنصر أساس في تأسيس وهيكلة الصورة الذهنية، التي تلعب دورًا مركزيًا في تنميط وتأكيد الفكرة باستعمال آليات التلاعب بالعقول، واختلاق المرجعيات المتحيِّزة، التي تُوظًّف وتُستخدم في تحقيق المصالح والمنافع. ويزخر التاريخ بمختلف توجهاته ومستوياته بمواقف كانت فيها الهوية المتخيَّلة أقوى من الانتماء الحقيقي. وحضور الهوية كفكرة مجردة وانتماء وصورة للذات في تمظهراتها المختلفة، جعل منها فكرة غير قابلة للتجاوز والإبعاد، بل يزداد استحضارها كوظيفةٍ وصورةٍ وهيئةٍ وآليةٍ للتعامل مع «الأخر». وقد طَغى النقاش الهوياتي على أغلب القضايا الجدلية، في العالم عمومًا وفي دول الجنوب خصوصًا، خوفًا من انعكاسات العولمة وتحدياتها على الهوية الثقافية.

فكلُّ صناعة هي تحيُّز باعتبارها تركيب لهويات جديدة، تعتمد على خطاب جديد يُحدِّد آليات الانتماء الجديدة التي ستحلُّ بديلًا عن الهويات القديمة التي يمكن العودة إليها مع تغيُّر الزمان  والمكان، فالخطاب الهوياتي البديل يبحث في حفريات الذاكرة عن رموز مؤسِّسة للانتماء الجديد ولو لم تسندها المعطيات العلمية الدقيقة، وذلك باستخدام الوسائل المؤثرة في المجتمع من قداسةٍ وأسطورةٍ وتاريخٍ ورموزٍ وغيرها، ويتوازى مع هذا الخطاب، خطاب آخر يعتمد على تقزيم الآخر واستصغار شأنه، وتحميله مصائب الذات من تخلُّف وهيمنة، بالإضافة إلى استحضار مشاهد ومواقف تؤيِّد اعتداءه على الهوية مما يستوجب الممانعة والتحصين. 

 وتتمُّ عملية التعبئة وفق إستراتيجيَّة دقيقة تنتقي من التاريخ والحوادث ما يناسبها، في سبيل خلق نمْذجة ثقافية جديدة، تدفع إلى إنشاء هوية وهمية جديدة، وهذه العوامل مجتمعة جعلت «الهوية مفهومًا غامضًا لأنه يرتبط بعلاقة الأنا بالأخر وهي تعني ما هو خاص لشخص أو لمجموعة وما يميِّزها عن غيرها» ( kouadio Germain, 2010)

فغموض الهوية وإشكالية تعريفها ينبعان من ارتباطها بالعلاقة الثنائية بين الأنا والآخر، وبحكم تغيُّر العلاقة وعدم ثباتها وتأثُّرها بالتحوُّلات والمستجدات والمصالح، فإنَّ الهوية بنوعيها الفردي والجماعي تواكب الظرفية والآنيَّة.

وتغيّر الهوية وتحوُّلاتها (les métamorphoses de lidentité) وعدم ارتباطها بالواقعية والعقلانية، بالإضافة إلى عدم تحرُّرها من سلطة الأيديولوجيا، أدّى إلى تكوُّنها عبر أفكار جاهزة مُضلّلة وخاطئة وهذا قد يجنح بها نحو «الوهم» حسب تعبير كل من داريوششايغان وجان فرانسوا بايار ([2]). كما أن الانغلاق والسكون على مكوّنات تمَّ التعارف عليها والإعتقاد بصدقها ومصداقيتها قد يؤديان إلى قدسية الهوية، فيجعلها مُكوَّنًا غير قابل للتغيّر والتكيّف   والتفاعل، وهذا ما يدفعها إلى أن تصبح انتماءً انتحاريًا ([3])  .

وقد تتحوَّل قضية الهوية، من مبدإ انتمائي يتشكَّل من مُكوِّنات تتراوح بين الثُّابت والمتغيِّر إلى فكرة خياليّة وهميّة، ترتبط بتصورات ذاتيّة ومعياريّة تبحث عن النقاء الهوياتي، في عوالم يوطوبية غير عقلانية ولا واقعية، فتصبح الهوية قريبة إلى الخيال العلمي التوهُّمي أكثر منها إشكالية إنسانية.

والانتماء سلوك وشعور إنساني طبيعي، يرتبط بإثبات الذات ومرجعياتها وفضاءات تحركها ووجودها، وتلعب مكونات الهوية دورًا أساسيًا في إثراء قيم ومقومات الانتماء والعكس، فدوائر الانتماء المختلفة تُؤصِّل للهوية وتحدِّد مرتكزاتها وأسسها، ولكن المبالغة والتعصب لانتماءات بعينها (الطائفية، الأقليات، الأيديولوجيات) أنتج ثقافة صِدامية اقصائيَّة ترفض قيم الآخر/المختلف.

وتبنِّي الإنسان لانتماءات تعود إلى أصول وجذور الأنا الواعية، مسألة طبيعية لا يمكن إنكارها وتجاوزها ولكن تشكيل الانتماء واصطناعه وفق رؤى وتوجهات بعينها، يمنع الشراكة المعرفيَّة الإنسانية ويكرِّس ظهور المركزيات التي تتأسَّس وفق تداول نمطيات متخيَّلة، وتنازع المركزيات باعتبارها أنساقا ثقافية مُحمَّلة بمعانٍ ثقافيَّة ودينيَّة وعرقيَّة، يؤدي إلى بناء هويات معادلة لانتماءات وهميَّة تستجيب لأسباب وجودها وظيفيًا أكثر من استجابتها لأسسها وقواعدها الجوهرية، التي تحافظ على قيم التميُّز والتفرُّد دون إنكار الاختلاف كقيمة وجودية في حياة الإنسان. (Duchesne, 2010)

وتخضع الهوية، عند بسطها للدراسة المعرفية الموضوعية، إلى سياقات وتأويلات متصلة بالمفهوم والمكوَّن والمستوى، فارتباطها بالأنا الواعية التي تنمو وتتطور وتأتلف وتختلف مع «الآخر» في تمظهراته المختلفة، والوعي هو الصفة التي تميِّز بين الوجود والعدم، فالوجود في حقيقته هو التفاعل مع بقية الموجودات والتكيُّف معها وأحيانًا التصادم في إطار معادلة البقاء للأقوى أو الأصلح، فالارتباط بالإنسان كان سببًا في خلق إشكالية تعريفها « الهوية خاصة بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، هي موضوع إنساني خالص، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون بين الواقع والمثال وهو الذي تنقلب فيه الهوية إلى اغتراب»(حنفي،2012)

إن التعانق المستمر والدائم بين الإنسان والهوية جعل هذه الأخيرة تتمحور حول سلسلة لامتناهية من التساؤلات والاستفهامات، وأدخل المصطلح في متاهاتٍ وتيهٍ، ما إنْ يغلق بابٌ حتى تفتح مدارات جديدة متعلقة بالماهية والمكونات«ليس من السهل الحديث عن الهوية، فهي مفهوم إشكالي في جوهره، فهي ليست ردًا أو تأكيدًا، فهي تحتوي على استجواب   واستنطاق، وتتجلى بطريقة استفهامية، خاصة حين نسأل: من نحن؟ وهو سؤال لم يطرح تاريخيا بنفس الشكل والصيغة، وهذا ما جعل من الهوية قضية إشكالية في جوهرها ونشأتها»(De Benoit, 2006)  

تختلف أسئلة الهوية والماهية عن أسئلة وظيفة الإنسان ورسالته في الوجود، فكوجيطو ديكارت (1596-1650) «أنا أفكر إذن أنا موجود» يُحيل على إثبات الذات وتجلياتها بالمقارنة مع الكائنات الأخرى، بصرف النظر عن نوعية التفكير والوجود، بالإضافة إلى تقديس العقل كآلية لإثبات الهوية ومعيار لبناء المعرفة، وهذا إقرار ضمني بإنكار المُكوِّنات الهوياتية الأخرى من أحاسيس ومشاعر وانتماءات وغيرها، أما سؤال من أنا؟ فيتعلَّق ويرتبط بتحديد مُكوّنات هذه الذَّات ومستويات تواجدها، بغرض هيكلتها وتقديرها وتحديد مكانتها ووظيفتها.

واعتبارًا للإشكالات المطروحة ذهبت بعض الأطروحات والمقاربات إلى الاعتقاد أن الصعوبات المتعلقة بإشكالية الهوية تكمن في الأصل، في المنهج وآليات المعالجة التي تستعمل في تفكيك الهوية وبُنياتها المختلفة، فالهوية مفهوم مُتعدِّد التخصصات وعابر للمناهج، ويتمُّ تداولها في حقول معرفية مختلفة من فلسفة وعلم إناسة وعلوم إنسانية واجتماعية ونفسية، مما يستوجب منهجية خاصة ومميَّزةً تهدف إلى تحقيق تعريف إجرائي يَكون قيمة فارقة بين مختلف الرؤى التي تشتغل بقضية الهوية « البحث في الهوية، بحث معرفي، أما البحث عن الهوية، فبحث معرفي مركب غالبا. البحث في الهوية صنع لهذه الهوية، ومتابعة لصنعها باستمرار، أما البحث عنها، فيعني أن الهوية منجزة ولكنها ضائعة يجب البحث عنها لاستردادها » (حلاق، 1979) 

إشكالات الهوية متعدِّدة تتراوح بين طابعها المركب، وديناميتها كموضوع قابل للتكيُّف والإنفتاح والتجدُّد أمام المستجدات وحضورها الدائم عبر مراحل التاريخ وحقبه المختلفة وتقاطع مختلف الحقول المعرفية في تداولها، جعل الفيلسوف الفرنسي فولتير (Voltaire) (1694- 1778) يشبِّهها بالنهر في الثبات والتغيُّر « نحن حقيقة كنهرٍ تصبُّ فيه المياه بتدفُّق دائم، هو نفس النهر بمنبعه وضفافه وتجاويف مصابه، ولكن بمائه المتغيِّر الذي يشكِّل كيانه، فلا توجد هوية وتماثل لهذا النهر » (Voltaire,1816).

الهوية في المنظومة المعجمية والموسوعية

تشير لفظة «هوية» كصيغة صرفيةٍ في اللغة العربية إلى المصدر الصناعي المتكوِّن من ضمير الغائب المفرد «هُوَ» و«الـ» التعريف، ومن لواحق الصياغة والوزن، المتمثِّلة في «الياء» المشددة و» تاء» التأنيث.

وكلمة «الهوية» اسم غير عربي، وإنما هي كلمة مشتقة من الـ ((هو)) أي حرف الرباط الذي يدل على ارتباط المحمول بالموضوع ([4])  في جوهره وهو حرف «هو» «مصطلح الهوية في حدِّ ذاته لا يمتُّ بصلة إلى جوهر اللغة العربية، فهو طارئ عليها ومن منظومة أخرى، هذا ما يؤكده ابن رشد في كتابه (تفسير الطبيعة) ([5])  في معرض شرحه لهذا المفهوم، إذ يقول: لقد اضطرَّ إليه بعض المترجمين، فاشتقَّ هذا الاسم من حرف الرباط، أعني الحرف الذي يدل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره وهو حرف «هو» في قولهم: زيد هو إنسان» (محمد رسول،2002) 

وتكاد تجمع معاجم اللغة العربية القديمة والحديثة على أن دلالة لفظة هُوية (بضم الهاء) اسم غريب عن اللغة العربية وهو مشتق من ضمير الغائب المفرد «هو» بينما يتم البسط والتحليل في لفظة «هَوية» (بفتح الهاء) باعتبار اشتقاقها من الفعل «هَوى» فابن منظور يرى أن « هُوية تصغير هُوَّة وقيل: الهَوية (بفتح الهاء) بئر بعيدة المَهواة (بفتح الميم) وعرشها وسقفها المغمى عليها بالتراب، فيغتَّر به واطئه فيقع فيها ويهلك »(ابن منظور)  ، فكأن البحث في الهُوية، بحث محفوف بالمخاطر والمزالق التي تؤدي إلى الإنحراف، فأقنعة الهوية متعدِّدة وأشكالها كثيرة، فهي تتجلَّى في كل ما يرتبط بالأنا وتفاعلاته مع « الآخر».

واكتفى الخليل بن أحمد بتعداد مشتقات الفعل (هَوى، يهوي، هَوى) بالفتح دون ضم فقال   «هَاوية من أسماء جهنم، معرفة بـ (أل) والهَوية: كل مَهواة لا يدرك قعرها، والهُوَّة: كل وَهدة عميقة »(الفراهيدي،2003) .

ولم تبتعد المعاجم اللاحقة عن المعاني المذكورة في المعجمين السابقين، وهو ارتباط الهوية بأنَّها أحد أسماء جهنم والبئر الغائرة عمقًا في جوف الأرض.

يقول الزبيدي:

«وتصغير الهُوَّة، هُويَّة، وهكذا روي قول الشماخ:

ولما رأيت الأمر عرش هُوية        تسليت حاجات الفؤاد بشمرا

وقيل الهُوية هنا تصغير الهُوَّة، بمعنى البئر البعيدة المَهواة.

قال ابن دريد: وقع في هُوَّة أي، بئر مُغطَّاة وأنشد:

إنك لو أعطــيت أرجـاء هُوة            مغمسة لا يُستبان ترابــــــــها

بثوبك في الظلماء ثم دعوتني      لجئت إليها سادما لا أهابــــــــها (الزبيدي،2001)

ثم يستدرك قائلًا «والهُويَّة عند أهل الحق (المقصود بهم أهل المنطق من الفلاسفة) هي الحقيقة المشتملة على الحقائق، اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق» (الزبيدي،2001) وتجدر الإشارة إلى أن الزبيدي (1145ﮪ-1205ﮪ) في هذا الإستدراك يكون قد نقل تعريف الجرجاني([6]) في التعريفات دون الإشارة إليه أو تفسير أهم المصطلحات الواردة فيه خاصَّة تلك المتعلقة بالفكر الصوفي.([7]) ويرى محمد علي التهانوي في «كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم» بأن الهوية هي «التشخص وقد يطلق على الوجود الخارجي وقد تطلق على الماهية مع التشخص»(التهانوي،1996)

ولم تستطع المعاجم اللغوية الغربية عموما والفرنسية خصوصا الإنفلات والتخلص من مفهوم المطابقة والمماثلة، حيث بقي مفهوم الهُوية وفيًا وموازيًا للدلالة المعجمية، فالبحث الدلالي في مفهوم الهوية في الدراسات الغربية، يمكن رصده من خلال ولادة المفهوم الذي يعود اشتقاقه إلى الكلمة اللاتينية (identitas) المستمدة من (identidem) التي تعني (مرارًا) والذي يعني حرفيا : نفس، نفس ونفس وهكذا (idem, èadem, idem) والذي يقابل (le même, la même) وهكذا([8]) .وارتباط التكرار في الإشتقاقات يكرِّس فكرة المماثلة والمطابقة التي تحوَّلت في المنطق الفلسفي إلى أن

أ = أ وهو مبدأ الهُوية المعروف، أي أن الشيء لا يمثل إلا ذاته.(1934 Dictionnaire,)

وبناءً على اشتقاقات اللفظة اعتبر معجم لاروس الموسوعي (Larousse Encyclopédique) أن الهُوية هي « علاقة تماثل بين كائنين أو أكثر أو بين أشياء لها تشابه مطلق » (Larousse, 2016) والملاحظ في هذا السياق أن لفظ «هوية» معجميًا يقابل معنى المطابقة أي تماثل بين الشيء ونفسه، وهنا تصبح الهُوية مرادفة للماهية، في حين أن الهوية فلسفيًا هي مطابقة الشيء في جوهره مع حقيقته الوجودية، فما يمكن استخلاصه من هذا الطرح هو أن موضوع الهوية ومفهومها ليس واحدًا بين الفلسفة ومختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ومبدأ مطابقة الأنا لجوهرها من المسائل والإشكالات التي أثارها الفكر الفلسفي، عبر مسارات تشكُّله ومدارات تطور العقل الفلسفي، حول مسائل الوجود والعدم والثبات والتحول، فقد راج في الفلسفة الإنسانية اليونانية فكرة الهوية بين الثبات والتغير وبصورة أخرى مدى مطابقة الذات لنفسها وجوهرها، واعتبر التيار الأيوني([9]) بقيادة هرقليطس (Héraclite)(535 ق م-475ق م) أن الهوية تتغير باستمرار، من خلال مقولته الشهير المجسدة لفكرة التغيُّر والتبدُّل (نحن لا نغطس مرتين في الوادي نفسه) ويقابل هذه الرؤية أطروحة بارمنيدس (Parménide )(540 ق م- 480 ق م) إن الهوية ثابتة، موافقة لجوهرها وهي تمثِّل وحدة الوجود والفكر.

وبصرف النظر عن التخمينات والمناظرات الفلسفيَّة، فإن الهوية عملية تفاعليَّة بين الفرد/ الذات/ الأنا والآخرين، وهذا التفاعل يأخذ أشكالًا وصورًا مختلفة تمتدُّ من البسيط نحو المعقد والمركب، كما تتقاطع أيضا مع مبادئ التسامح والتصادم باعتبارهما مظهرين من مظاهر الوجود، فالهوية بتكريسها للاختلاف من خلال التميُّز والتفرُّد، فإنها تؤسِّس لعلاقات تفاعلية مع «الآخر»، فالخصوصيَّة بأشكالها المختلفة لا تتنافى مع ثقافة التواصل «الهوية شيء قابل للنقاش وتأتي إثر عمليات التفاعل الإنساني. هي تستلزم عمل مقارنات بين الناس كي تؤسس أوجه التشابه والاختلاف بينهم » (لبورن،2010)  . ومبدأ التفاعل الإنساني دفع بالفلاسفة إلى إعادة قراءة بُنية الهوية من حيث التشكُّل و القيمة والمكوِّن، فاتخذ جون لوك (1632-1704)(John Locke) منحى جديدًا وسطيًا بين الثبات والتحول، حيث اعتقد بأن الهوية تتجلى من خلال التوفيق بين الشعور والفكر، فهما محوران  يمنحان الهوية جوهرها، فالإنسان كائن عاقل  قادر على التفكير   والتأمل وهذه الآليات تمنحه القدرة على الإدراك والتفكير، ويمثِّل الفكر الذاكرة التي تسترجع المواقف والحوادث لتكيِّفها وتوظِّفها وفقًا لمتطلبات ظروف التفاعل الإنساني، مما يشكِّل استمرارية بين الماضي والحاضر.

كان وارتباط الهوية بالتواصل الإنساني منطلقًا لفلاسفة الحداثة بالبحث عن العلاقات الممكنة بين الهوية الإنية والهوية الغيرية، فقد حاول يورغنهابرماس (Jurgen Habermas)(1929) تفسير الهوية التواصلية وجعلها أساس إنتاج العقل الواعي، والذي اصطلح على تسميته بالعقلانية التواصلية، التي تتأسس على خطاب تداولي قوامه البرهان اللغوي والتفاعل الواعي، لتحقيق التفاهم بين الأفراد وإعادة ربط نسيج العلاقات الاجتماعية من جديد «فوحدها عقلانية تواصلية تضع أمامها تحقيق التفاهم المتبادل والتفاعل الحواري، يمكنها أن تساعدنا على بلورة تفاعل اجتماعي يعيد الحرارة إلى شرايين المجتمع المعطوبة والعقلانية التواصلية تعدُّ المسلك البديل للمنطق الخانق الذي يعتمر في العقلانية الأداتية (الغاية تبرر الوسيلة) وما ترتب فيه النسقية من تحويل حياتنا إلى حياة من دون طعم أو ذوق» (مصدق،2005)

وضمن الفعل التواصلي سارت إستراتيجية التفكيك عند جاك دريدا (Jacques Derrida) (1930-2004) إلى تبنِّي استراتيجية ونسق يبحث عن انتماءات هوياتية تفاعلية جديدة تكرِّس وعيًا معرفيًا بالآخر، يؤدي إلى فهمه ثقافيًا وحضاريًا دون خوفٍ على الهوية وتأزمها.   

تقترب في الموروث التراثي العربي والإسلامي مقاربات من الرؤى المعاصرة في فهم الهوية وتعريفها، خاصة ما تعلق بأنواعها وعلاقاتها الخارجية، حيث أشار الكفوي (تـ 1094ھ/ 1683م)  في معجمه إلى تصنيف المفاهيم المنحدرة من لفظة الهوية، فميَز بين الهوية والماهية، واعتبر أن مطابقة الهوية لجوهرها (Substance) في تمظهراته المختلفة؛ العقلاني، النفساني، الجسماني، الجوهر المادي، أو الهيولي، هو حقيقة، أما تجلياتها الخارجية وهي صفة العموم والشمول وتحولاتها إلى صور ذهنية عقلية فهو جَوْهرٌ (Essence) فيقول « لفظ الهوية فيما بينهم يطلق على معان ثلاثة: التشخص والشخص نفسه والوجود الخارجي، قال بعضهم: ما به الشيء هُو هُو باعتبار تحققه يسمى حقيقةً وذاتًا، وباعتبار تشخصه يسمى هويةً، وإذا أخذ أعمَّ من هذا الإعتبار يسمى ماهية، وقد يسمى ما به الشيء هُو هُو ماهية إذا كان كليًا كماهية الإنسان » (الكفوي،1998)

ومهما تكنْ قيم الثبات والمكونات والركائز التي تُشكِّل الهوية وتُؤسِّس لهيكلها ضمن المنظومات المعرفية والقيمية المختلفة، فإنَّ السكون المطلق والمطابقة الآلية فرضيات غير ممكنة وربما مستحيلة، فالتحوُّل صفة من صفات الهوية ودينامية تحرك مكوناتها وتُبرز تجلياتها دون الاهتمام بتحديد نسبة التحول والثبات.

ويُعدُّ انشغال الفلاسفة المسلمين بفكرة الجوهر والماهية والمطابقة امتدادًا للفكر الفلسفي الإنساني، مع تفاوت جوهري في طرح إشكالية المطابقة والمماثلة، باعتبارها فكرة فلسفية وجودية وإشكالية صوفية متعلقة بالذات الإلهية وتجلياتها، فالفارابي (874م-950م) اعتبر الهوية نواة لكل خصوصية وتفرَّد، لا يمكن أن تستبدل أو تحوَّر أو تبدَّل « هوية الشيء وعينيته ووحدته، وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد، وقولنا إنَّه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له، الذي لا يقع فيه اشتراك، والهو هو معناه الوحدة والوجود، فإذا قلنا: زيد هو كاتب؛ زيد هو موجود كاتب »(الفارابي،1346ه) .

وفكرة المطابقة مبحث شغل رجال المنطق وحتى علماء الاحيائيات والسلالات البشرية، فالإنسان مطابق لذاته الداخلية أو الخارجية، وفيٌ «لأنَاهُ» أو لمكوِّناتها، مماثل لنفسه وذاته في جوهرها أو في شكلها ورموزها ومكوناتها.

والمطابقة والمماثلة والثبات والتغيَّر والتحوَّل من أهمِّ الإشكالات التي احتلت مكانةً معتبرةً في الجدل الفلسفي الإنساني عمومًا والعربي خصوصًا، إذْ انقسمت المنظومات الفكرية قسمين؛ مؤيد لأطروحة الثبات وتعتقد بأنَّ ما « يُرادُ بالهو أساسًا ما يبقى دائما ثابتًا بالرغم ممَّا يطرأ عليه من تغيرات، فالجوهر هُو هُو وإنْ تغيَّرت أعراضه » (وهبة،2007)  ويبقى الجوهر مفهومًا يثير الجدل حوْل مُكوِّناته وشكله وتجلياته، فتذهب التأويلات إلى أن المقصود بالجوهر، الذات والأنا والروح والبُنية وهكذا، في حين ترى مقاربات أخرى أنَّه مهما كانت تجليات الجوهر فهو مُكوَّن بشري وهذا ما يجعله يتغيَّر ويتحوَّل، لأنه مؤسَّس من مشاعر وأحاسيس وقيم. كما تستدلُّ الرؤية السابقة بحديث أم المؤمنين صفية – رضي الله عنها – لتبرير نظرية ثبات الهوية، من خلال روايتها لحديث إثبات نبوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم فتَحكي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب - رضي الله عنها -  فتقول: «كنتُ أَحَبَّ ولد أبي إليه وإلى عَمِّي أبي ياسر، لم ألقَهُما قطُّ مع ولدٍ لهما إلَّا أخذاني دونه». فلمَّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزَل قباءَ في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حُييُّ بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغلِّسين؛ (أي: ساروا بغَلسٍ، وهو ظُلْمة آخر الليل).

قالت: «فلم يَرجِعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالَّيْن، كَسْلَانين ساقطَينِ يَمشيان الهُوينى، فهشَشْتُ إليهما كما كنتُ أصنَعُ، فواللهِ ما التفَت إليَّ واحدٌ منهما، مع ما بهما من الغمِّ»«قالت صفية - رضي الله عنهما -: «وسمعتُ عمي أبا ياسرٍ وهو يقول لأبي حُيي بن أخطب: «أَهُو هُو؟» (أي: هل محمد صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي نَنتظرُهُ، الموجودة بشارته في كتبنا؟)، قال حيي بن أخطب: نعم والله».

قال أبو ياسر: « أتعرفه وتُثبِتُه؟ قال حيي بن أخطب: نعم. قال أبو ياسر: فما في نفسك منه؟ قال حيي بن أخطب: عداوتُه واللهِ ما بقيت» (ابن هشام،1990)  . وتذهب الأطروحة الثانية إلى أنَّ « مفهوم الهوية من المفاهيم متعددة المعاني (polysémique) وهو يُحيل على الأنا وعلى تصوُّراتنا عن أنفسنا التي تسمح للآخر بأن يتعرف علينا وهي تشتمل على مظهرين : احترام الذات وتقديرها والوعي بها» (Live, Hamon, 2005)

والمستقرئ للفكر الفلسفي العربي والغربي، على حد سواء يلاحظ أنَّ دعاة الثبات ومطابقة الهو للجوهر يتركون هامشًا ومتنفسًا لبروز المتغيرات، فالهوية في مسارات تشكُّلها وبنائها، تتعرض لضغوطات الراهن وتفاعلات الوجود مما يساهم في إعادة تشكيلها وبنائها وإنْ لم يكن ذلك على الأقل مراجعة آليات التفاعل والتَّكيف مع الآخر. ذلك أنَّ هوية الشيء هي مَا يكون به الشيء هو ذاته ونفسه وصيرورته متمايزًا عن غيره، ولكن مطابقة الذات مع جوهرها لا ينفي عنها التطورات والتأثرات، فهوية الشيء هي ماهيته وحقيقته الخاصَّة به والمميزة له، فالماهية كما يقول الجرجاني (740-816ھ)(1339- 1413م) هي «تطلق غالبًا على الأمر المتعقِّل مثل المتعقل من الإنسان وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب هو ما يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار هوية ومن حيث حمل اللوازم له ذاتًا ومن حيث يستنبط من اللفظ مدلولًا ومن حيث انه محل لحوادث جوهرًا وعلى هذا» (الجرجاني،دت) 

 

 

واستكمالًا لمفهوم الهوية في المنظومة اللغويَّة والفلسفيَّة العربيَّة، نشير إلى أنَّ المتصوِّفة لهم رؤيتهم الخاصة ومقاربتهم المميزة في فهم الهوية وتعريفها، إذْ اعتبروا أنَّ «هو» الذي اشتقت منه «الهوية» من الألفاظ الذي تتغيَّر وتتلوَّن بمعانٍ تتناسب مع الحقل المعرفي المنتمية إليه، وقد تعني «الغيب» وهو المفهوم المعبَّر عنه باللامحدود واللاتعين، وهذا المستتر والمُضمر الذي لا يُمكن إدراك تجلياته، قد يكون وحدة الوجود أو الجوهر وقد يكون «الآخر»، وهذه الرؤية دفعت الفكر الصوفي إلى الإعتقاد بأنَّ (الأنا) أي الفردية والشخصية تتماهى تماهيًا مطلقًا وكليًا مع (الآخر) فتصبح «أنا آخر» (Je est un autre )([10])   على اعتبار أن الإنيَّة الفردية المنفصلة لا يمكن أن تتواجد إلا ضمن (الآخر) «وما دُمنا نعتقد أنَّ الأنا هو الأنا ولا شيء آخر غيره، فإنَّ للذات وحدة فردية، ولها هويتها الخاصة، ويكون نظام المعنى هو النظام الذي يؤسسه المنطق التقليدي، لكن أنْ تكتشف أنَّ الأنا ليس الأنا، وإنما هو آخر، فإنَّ مبدأ الهوية بمعناه التقليدي يتزلزل وينتهي»(أدونيس، 2010) .

لقد انشغل الفكر الفلسفي العربي والإسلامي بمسألة الهوية، تعريفًا وبحثًا وتأصيلًا، حتى احتلت اللفظة قيمةً ودلالةً مركزيةً في منظومته، وحاول ضمن منهجيته أن يفرِّق بينها وبين المفاهيم المتصلة بها والمتقاطعة مع حقلها الدلالي، كالهوية والوجود الخارجي والجوهر والعينية والغيرية وغيرها. ولعل أهمَّ جدلية أُثيرت هي تلك المتعلقة بعلاقة الهوية بالآخر، لأنه لا وجود لهوية خاصة دون اختلاف، فكل «أنا» تحمل غيريتها أي «آخرها» وبالتالي تكون الآخرية ركنًا في تكوين وتأسيس الهوية «فاتضح له أن لا تستقيم هوية للأنا من دون الآخر، وإنَّ الوعي بالذات يمرُّ بالضرورة عبر الغير. وأيقن أن الآخر حاضر في الذات بقدر ما هو غائب وقريب بقدر ما هو بعيد، إذ الغير هو الوجه الباطن لنا وهو مكناه أو ما يمكن أن نكونه، واستقر عنده أن لا تشابه بإطلاق ولا تباين بإطلاق» (حرب، 2008) .

تعتقد الفلسفة الكونفوشيسية أن الإنسان يولد بمفرده، ويموت بمفرده ولكنه لا يعيش ولا يحيا إلَّا مع الآخرين وبالآخرين، وسواء تناقضت هذه الحكمة مع مقولة جان بول سارتر(Jean Paul Sartre)(1905-1980) الشهيرة (إنَّ الآخر هوالجحيم)، أو توافقت مع مقولة الشاعر الإنساني الألماني غوته (Goethe)( 1749- 1832) (ليس ثمَّة عقاب أقسى على المرء من العيش في جنَّة بمفرده)، فمهما كانت صورة «الآخر» وشكله وهيئته فهي ضروريَّة وحتميَّة لوجود «الأنا» المتميزة بهويتها الفردية وبثقافة الاختلاف التي تنشئ الفوارق والاختلافاتوالتباينات، فمن المغايرة والاختلاف تتشكَّل الهويات ضمن مُكوِّنات خاصَّة ومختلفة، وفي ظل المفارقات يتعَّرف كلٌّ من «الأنا» على «الآخر» والعكس وتؤسَّس الرؤى المتباينة والمرتكزات التأصيلية أرضيات للاحتكاك والتقارب، «فالآخر ليس بالضرورة هو البعيد جغرافيا، أو صاحب العداء التاريخي أو المنافس الدائم؛ إذ يمكن للذات أن تنقسم على نفسها ويحارب بعضها بعضا» (ابراهيم علي، 2008) ، فتجليات «الآخر» وتمظهراته متعددة، وأكثر ما يميِّزه ويحدِّد هويته هو الاختلاف، الذي تتوَّلد منه أشكال المغايرة سواء الجنسية أو الثقافية أو العقائدية.

وإذا كانت «الأنا»، متغيِّرةً ومتحوِّلةً وتبحث عن هويتها ضمن فلسفة وحضور «الآخر» فهذا الأخير أيضًا ليس في اتصال وثبات دائمين مستمرين، فهو يتموقع وفقًا لمصالحه وغاياته وظروفه الخاصَّة، لذا تستوجب العلاقة التبادلية الإتفاق حول المشترك الإنساني الذي يضمن التفاهم والتفاعل، وهنا تتحوَّل الهوية إلى مشروع يسعى كلّ طرف إلى تحقيقه وفق استراتيجيات المصالح المشتركة والوجود «إنَّ أهم شرط لوجود الهوية هو المغايرة، فقد يُطرد الآخر أو يُقصى، وقد يتحوَّل إلى نموذج (كاريكاتوري) يجمع القبح والجمال، فصورته في تغيُّر مستمرٍ، ومن هذه التغيرات والتحوُّلات تشكِّل الأنا هويتها» (Constant Martin,2010) .

وتستمدُّ الهوية قوتها وروحها وربما وجودها من علاقتها مع «الآخر» فهو مكوِّنٌ وركيزةٌ وركنٌ مركزيٌ ورؤيةٌ تأسيسيةٌ في بناء ماهيَّة «الأنا» وتحديد موقعها ووظيفتها ضمن المُعطى الإنسانيّ في منجزه الحضاري «الآخر هو النظير والمختلف في الوقت نفسه، نظير بسماته البشرية أو الثقافية المشتركة، ومختلف بتميُّزه الفردي أو باختلافه العرقي، فالآخر يحمل فعلًا في دواخله الغرابة والتماثل.بصفته ذاتًا يتيح لنا أن نفهمه في تماثله واختلافه، إنَّ انغلاق الذات على نفسها تجعل الآخر غريبًا عنا، أمَّا الانفتاح على الآخر فيجعله أخًا لنا، فالذات بطبيعتها منغلقةٌ ومنفتحةٌ» (موران، 2009) .

إنَّ المُكوِّنات العامة والقواسم المشتركة داخل الهوية الجماعيَّة تتفاعل وتتطور ضمن ثنائية الصراع والحوار مع «الآخر» الذي يمثل الاختلاف، وتتأسَّس الهوية في دائرة الاختلاف والمغايرة وفضائهما بمختلف صورها ومستوياتها، التي حصرها محمد عابد الجابري في «فردية، جمعويَّة ووطنيَّة قوميَّة، والعلاقة بين هذه المستويات تتحدَّد أساسًا بنوع «الآخر» الذي تواجهه» (الجابري، 2015)، منطلقة من الإحساس الواعي بالتفرُّد والتميُّز إلى الإيمان بقيم الجماعة ومُثَّلها ضمن فضاءات المحلي والكوني.

والتفاعل في هذا المقام يدفع بالهوية نحو الاستقلالية وتجاوز التماهي ومطابقة المتبوع للتابع والعبد للسيد والهامش للمركز، بل يُنتج التفاعل الواعي ذاتًا مختلفة، مُبدعة، مُتكيِّفة مع مناخات وجودها، دون خوف من مزالق الكونيَّة والعولمة الثقافيَّة، فالهوية الجديدة تستثمر مكوناتها المرجعيَّة « لا تكتمل الهوية الثقافيَّة إلا إذا كانت مرجعيتها :جماع الوطن والأمَّة والدولة»(الجابري، 2015)  حتى تستطيع ولوج مجتمعات «الآخر» دون خوف أو ذوبان أو انصهار أو اغتراب، فالهوية لا تُعدُّ هيكلًا نمطيًا جامدًا مختزلًا في تراث مِيتافيزيقي ومُكونات جاهزة مع وصفة ونصائح للاستعمال، فهي تتحوَّل بفعل الحضور الدائم والمستمر إلى فعل تواصليّ، يضمن « للآخر» وجوده ككائن فاعل، ايجابي، بعد تخلُّصها من بُعدها الأحادي وهو البُعد الهووي (من هو) «لا يمكن لفرد آخر أن يقول (أنا) بدلًا مني، لكن يمكن لمجموع الآخر من أن يقولوا ((أنا)) لخاصتهم، ونظرًا لأن لكل فرد يعيش ويقاسي بصفته ذاتا، فإن هذا التفرُّد المميَّز هو من أكثر الأمور التي يتشاطرها البشر جميعًا في العالم كله ؛إنَّ كوْن كل واحد منَّا ذاتًا، يجعل منا كائنات فريدة لكن هذا التفرُّد هو من أكثر الأمور شيوعًا» (موران،2009) .

من أهمِّ مُكونات الهوية الواعيَّة الاتصال بالآخر، فلقاء الآخر إقرارٌ واعترافٌ بوجوده، وتصحيح للنمطيَّات والأفكار الجاهزة المتخيَّلة والإحتكاك بمختلف صوَّره وأشكاله،سواء المباشرة، وغير المباشرة من أهمِّ آليات المثاقفة الإيجابية فهي تمكِّن من الإطلاع على ثقافة الآخر وملامسة عاداته وتقاليده وموروثه الاجتماعي وثقافيّ، الذي يصحِّح ويُصوِّب ثقافة الوَهم   والصور السلبيَّة الموروثة. وباستعراض التجارب الأدبيَّة والفنيَّة نعثر على نماذج كثيرة لهويات متجدِّدة نتجت عن الإحتكاك الجديد وإعادة تركيب ومراجعة للثقافة المتوهَّمة أسيرة المرويات الكُبرى، فقد جدَّد الشاعر غوته (Goethe) تصوُّره عن الإيطاليين بعد زيارته سنتي 1786- 1788، الشأن ذاته يمكن إدراكه في تجربة مدم دي ستايل (1766-1817)(Germaine De Staël) بعد معايشتها للمجتمع الألماني، في حين أنَّ الرحالة السويسري يوهان لودفيكبركهارت)(Jean Louis Burckhardt)(1784- 1817) والذي عاشَ في مكَّة المُكرمة بين سنتي 1814- 1816 حيث عايش المسلمين وتأثر بأخلاقهم وأُعجب بعاداتهم وتقاليدهم، مما دفعه إلى اعتناق الإسلام واكتشاف هوية جديدة.

وإذا كان حضور الآخر جوهريًا في المدار الهوياتيللأنا، وجزءاٌ مركزياً من مسار تكوُّنه، فما هي مرتكزات الهوية العربيَّة التي انتقلت إلى الغرب في رحلة اكتشاف «آخر» مُختلف لغويًا وثقافيًا وعقائديًا.

أثارت مشكلات مكونات الهوية العربيَّة جدلًا لا متناهيًا ومواقفَ ورؤى متباينة، قد تصل أحيانًا إلى مرحلة التناقض، وتراوحت المقاربات بين تلك التي تقصر المكونات على الجوانب الدينيَّة  واللُّغوية وغيرها، في حين ترى اتجاهات أخرى ضرورة التخلص من هذه المكونات التي ترى فيها عرقلة لأي نهضة، وكالعادة في مثل هذه الجدليات، ظهر اتجاه توفيقي يحاول الجمع بين المقاربتين والتوفيق بينهما «سؤال الهوية، لا يزال سؤال يطرح جملة أزواج أو ثنائيات على رأسها الأزواج التاليَّة: الإسلام/العروبة، الدين/الدولة، الأصالة/المعاصرة، الوحدة/التجزئة، سؤال الهوية في الفكر العربي الحديث والمعاصر يطرح الفصل بين هذه الأزواج: من نحن، ماذا نريد أن نكون؟ سؤال يطرح مباشرة قضية العروبة والإسلام، قضية الدين والدولة، قضية الوحدة والتجزئة، قضية السلفية والحداثة ... »(الجابري،1989)

تشكِّل هذه الثنائيات حقيقة إشكالات الفكر العربي المعاصر وتحدِّد الرهانات والتحديات التي تتحمَّل النخب مهمات تفكيكها وتوضيحها، وهي تشغل الفضاء الفكري والأيديولوجي العربي،   والهوية داء جديد كما يقول ليفي ستروس(Lefevre,2013)  وسؤال من أنا؟ أو من نحن؟ من الأسئلة الجوهريَّة، لأنَّها مرتبطة بالوجود والكينونة، ولم تنجُ من طرحه حتى الأمَّمُ المتقدمة، لأنَّه سؤال مرتبط بالبُعد الأنطلوجي الذي يحدِّد الذات ويوضح رسالة الأنا ([11]) .

وانتقل سؤال الهوية والوجود من أوروبا إلى أمريكا، أكبر حواضر التعدُّد الثقافي والإثني في المعمورة، ذلك أنَّ الانتماء لا يعني وحدة الهوية، وهذا ما دفع بالكاتب الأمريكي صمويل هنتجتون (1927- 2008) إلى التساؤل (من نحن؟) «هل نحن شعب واحدٌ أم شعوب متعدِّدة؟ وإذا كُنَّا «نحن» فما الذي يميِّزنا عن «الآخرين» المختلفين عنا؟ هل هو العنصر أو الدين أو العرق أو القيَّم أو الثقافة أو الثروة أو السياسة أم ماذا؟»(هنتنجتون، 2009).

لا تعدو الهوية الثقافيَّة، والتي تتقاطع مباشرة مع ثقافة الآخر تحت ظلال مختلفة وأشكال وصور متنوعة، أن تكوِّن جملة من المعارف والمعتقدات والفنون والسلوكات والقوانين والأعراف الاجتماعية «حرية الإنسان المبدعة تدفعه لتأسيس هويته، ويحقق بهذا وحدة تشهد بخصوصياته الوجوديَّة كإنسان، لكن هذه الهوية تتأسَّس بالجذور التاريخيَّة للأجداد والموروث الثقافي، فلا توجد هوية دون تاريخ أو ثقافة »(Tzitzis, 2011) ، فلا تصادم أو تناقض بين مكونات الهوية الأساسيَّة (اللغة والدين  والتاريخ والجغرافيا والقيم الإنسانيَّة) وبين الإنفتاح الواعي على ثقافة الآخر في بعدها الإنساني، حيث تلعب المكونات الأساسيَّة للهوية أدوارًا قويةً في ترسيخ الوعي بالذات والإيمان بالقدرات الفرديَّة التي تدفع نحو الإنفتاح العقلاني الذي يؤسس للنديَّة ويتجاوز النظرات الدونيَّة  والإقصائيَّة.

وقد أثبتت التجارب الإنسانيَّة أنَّ الانغلاق على المكونات وتحويلها وتحريفها عن مفاهيمها البسيطة المعبرة عن التفرد والتميُّز إلى دلالات مقدسة، من شأنه أنْ يرهن ويسجن الأنا في الوهم والإعتقاد بالنقاء أو يدفعه إلى التصادم مع الآخر، والحقيقة أنَّ الهوية يجب أنْ تنطلق من المُكونات لتأسيس مشروع مُنفتح على المستقبل ومتجدِّد ومتكيِّف مع المتغيرات والمستجدات، وفي حال تقوقعها على نفسها فإنها ستنتج أسلحةً دفاعيَّةً تكون منتهيَّة الصلاحيَّة لا تتماشى مع التطورات وبالتالي تصبح مشروعًا مضادًا للانا وللآخر.

فاستلهام المغايرة وقيَّم الاختلاف من شأنه تدعيم المناعة، وتقوية عناصر المُمانعة أمام تيارات التغريب والإستلاب «تتشكَّل الهوية الأمريكيَّة أيضًا بشكل حاسم نتيجة الإدراك الجديد بتعرض أمريكا لهجوم خارجي جديد، وإثر تفاعلات أمريكا المكثفة مع شعوب لها ثقافات وديانات مختلفة وهذه التأثيرات الخارجية يمكن أن تدعِّم إعادة الاكتشاف والتجديد الذي يقوم به الأمريكيون لهويتهم الدينيَّة والتاريخيَّة وثقافتهم الإنجليزيَّة البروتستانتيَّة»(هنتمجتون، 2009).

فالمواجهةُ والمكاشفةُ والمنافسةُ والاحتكاكُ هي عواملُ تحصين الهوية، فالمحافظة لا تعني الانزواء والسلبيَّة، فالمُمَانعة آليَّة تدفع بالهوية ومكوناتها نحو الكونيَّة ودخول فضاءَات الإنتاج  والإبداع، أما محاولاتُ الحفاظِ على الهوية ضمن القوانين والدساتير فيتيح الفرصة للأيديولوجيا في الاستيلاء على الهوية، ومن ثم التحكم فيها وتحديد مُكوناتها ووظائفها وتسخير الوسائل الماديَّة والمعنويَّة للدفاع عنها وهنا تزداد مخاطر انهيارها واقتحامها.(Lamizet, 2002)

فاقتران الهوية بالأيديولوجيا يُدخلها حقول التخيُّل والتمثُّلات الوهميَّة التي تُعيد  تشكيل الأنا وفق مقتضيَات السلطة، لأنَّ لكل سلطة كما يقول لويس ألتوسير(1918-1990)(Louis Althusser) أجهزة دولة([12])، تقوم بوظيفة التضليل والغش والقمع والتنميط وإنتاج الصوَّر الجاهزة والوهميَّة، وتسخير نخبة تكتب وتدافع عن قيم وثقافة وظيفتها جعل الماهية الإنسانية مفهومًا أيديولوجيًا منتميًا إلى مدرسة مثاليةً، وتضليليةً، فالذات لا تصنع التاريخ، بل احتكاك الفرد مجسدًا في هويته الذاتية بالآخرين والطبقات الاجتماعية المختلفة هو من يصنع البُنى المعرفيَّة الفاعلة والواعيَّة التي تؤثر وتغيِّر التاريخ والمجتمع، بينما تكتفي الأيديولوجيات بالوقوف السلبي واللاواعي أمام الأطروحات النظرية التي لا تفتأ أن تهتزَّ وتنهار أمام الواقع.

الهوية المرتحلة وصدمة الآخر

انتقل الرحَّالة العربي إلى الغرْبِ لأسبابَ متنوعة تفاوتت بين الاكتشاف والسياحة والمهام الدبلوماسيَّة والعسكريَّة، ولكن بهوية واحدة رغم تعدد المكونات والخصائص ولكنها هوية موسومة بالتَّخلف قياسًا بمنجزات الآخر الغربي.

حمل الرحالة في تنقلاته رسالةً إصلاحيةً أفقدته الاستمتاع بالمناظر الطبيعيَّة، وجعلته مهمومًا بالرسالة الحضاريَّة والتساؤل حوْل جدليَّة العلاقة بين الأنا والآخر في فضاء البناء الحضاري، وَسط التفاوت الكبير في المنجزات.

وشكَّل اللقاء تشريحًا للذات العربيَّة المتضخمة بخطاب المرجعيات، ونتجَ عن المكاشفة  والمواجهة ما عرف ﺒــ «الصدمة الحضارية» ([13]) ، التي أيقظت الوعيَ من جهة وفكَّكت كلَّ خطابات «الأنا» المتعلقة بالكمال والتطوُّر والتفوُّق، ودفعت بالمفكرين إلى مراجعات جديدة شملت إعادة النظر في صورة الذات وفي الموقف من الموروث التراثي وفي كيفيَّة استثماره وتكيِّيفه ليتناسب مع الحداثة وروح العصرِ.

حَمَلَتِ الهوية المرتحلة سؤال النهضة، ففي الرحلة كانت المواجهة بين هويتين ومرجعيتين مختلفتين، فرأى الرحَّالة وهو يجوب الغرب حضارة ومدنيَّة غير معهودة بالنسبة، له ومشاهد ثقافيَّة ودينيَّة مغايرة لتلك التي اعتقدها وآمن بها، فاصطدم بجديد، سواء المُجسد في الأشكال الماديَّة أو في الفكر المبثوث في الكتب والموسوعات، لفقهاء الحضارة والقانون وعصور التنوير الأوروبيَّة، خاصةً ما تعلَّق بالقيم الإنسانيَّة الخالدة من حريةٍ وعدالةٍ ومساواةٍ وتحررٍ ([14]).

يذهب ابن خلدون في نظرية الغالب والمهزوم «أن المغلوب مولع أبدًا بالإقتداء بالغالب في شعاره، وزيِّه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أنَّ النَّفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنَّ انقيادَها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب» (ابن خلدون، 2005)  فوفق هذه النظرية انهارت الهوية العربيَّة المهزومة أمام جيوش نابليون المنظمَة وأمام التقنية التي يستخدمها والوسائل التي استحضرها، من مطبعة ومفكرين ومستشرقين استطاعوا توظيف المناهج العلميَّة وتأويل التاريخ لتسويغ الحملات الاستعماريَّة والتعامل مع الأهالي، فكانت قوة «الغالب» أمرًا واقعيًا كشف حقيقة «الأنا» المغلوبةِ المتضخمةِ وراء الشعارات الزائفةِ، وقد سبقت هذه الحالة من الإنهزاميَّة والشعور بالنقص الرحلات السفاريَّة إلى الغرب.

ومع وصول أوَّل الرحالة العَرَب إلى الغَرِب، كانت صدمة الاحتكاك المباشر بالحضارة الغربيَّة وبمنجزاتها الماديَّة والمعنويَّة، وكشفت مرآة الغيريَّة عن الفجوة الحضاريَّة بين الفضائين المختلفين، ومهما كانت درجة تمركز الغرب حوْل نفسه واعتقاده «أنَّ ثقافته وحضارته تمثِّلان نهاية التطوُّر وأنَّ الحضارة البشريَّة انتهت إليهما وما عداهما ركودٌ وتخلفٌ» (الدوري، 2013)  ومهما كانتقوَّة درجة المبالغة في عقيدة التمركز، بتفوُّق الأنا ودونيَّة الآخر، فإنَّ المسألة لا تخلو من حقيقةٍ تتمثَّل في قوَّة الحضارة الغربيَّة، سواء ما تعلق بجوانب التطور العلمي والتقني أو ما ارتبط بقضايا الثقافة والحقوق والقيم الإنسانيَّة الساميَّة التي عمَّت أثارها المعمورة كلها.

والاعتراف بفضل الحضارة الغربيَّة وقوتها، يمكن ملاحظته عند الرحالة العرب جميعهم حتى وإنْ تباينت الرؤى حوْل بعض القضايا الإجتماعيَّة والدينيَّة، أو في أنواع العلاقات التي يجب إقامتها مع الغرب، فالرحالة العربي يقرُّ جازما بأنَّ الشرق في حاجة إلى علوم الغرب، لأنَّها وسيلة من وسائل الخروج من التخلُّف، بالإضافة إلى كونها آليةً عقلانيةً لتدارك النقص، والعلوم تشمل الاقتباس وتبنِّي المناهج العلميَّة السليمة والناجعة، وليس في الأمر ضير أو عيب، لأنَّ جدليَّة التَّأثير والتَّأثر ميزة من مميِّزات الحضارات، فالمعرفة تتأسَّس من تراكمات بشريَّة تُكمِّل بعضها بعضا، فلا توجد حضارةٌ مكتملةٌ، فالحضارات تتكامل وتتصارع لغاية واحدة هي سعادة الإنسان.

عجزت الهوية العربيَّة في التكيُّف مع المنجز الحضاري الغربي، سواء من حيث المعياريَّة الكميَّة أو القيميَّة، فأُصيبت بالدهشة التي كشفت للذات الواعيَّة مدى تخلُّفها وتقهقرها أمام «الآخر» «بين الدهشة والحداثة توجد إذن صلة مربكة يكتنفها إبهام طريف. ووجه الطرافة أنَّ علينا أنْ نأخذ الدهشة هنا بوصفها ظاهرة لا تخصُّ النَّفس أو الجمهور، وإنَّما بوصفها سلوكًا أصليًا لثقافة ما، وجدت نفسها بفعل عنف ما ملقى بها في عصرٍ روحيٍ لم تتهيأ له من الداخل»(المسكيني، 2001) .

إنَّ مسألة الغرابة والدهشة الناتجة عن العلاقة من اكتشاف قوَّة الآخر وحضارته تتمثَّل في عدم تأهيل العقلِ العربيِّ وتهيئته لدخول عوالم الآخر، ولعل أبرز هذه الفضاءات، فضاء الاختلاف. حقيقةً لقد عرفت الهوية العربية احتكاكًا بالآخر/المُختلف عبر عصورها التاريخيَّة والأدبيَّة، خاصةً في العصر العباسي الذي امتزجت فيه الأجناس والأعراق ونتج عنه ظاهرة الشُعوبية، والتي تعتبر من أوَّل المظاهر العنصريَّة العرقيَّة التي عرفها واصطدم بها الفكر العربي، لكن اللِّقاء مع الغرب الحديث، المتقدِّم والمتحضِّر شكَّل للمنظومة الفكريَّة العربيَّة ولهويتها صدمةعميقة «إنَّ دهشة العرب من الحداثة هي أهمُ حدثٍ روحيِّ في تاريخهم المعاصرِ...هي اصطدامٌ روحيٌ بأُفق تاريخيٍ لم يقع التهيؤ له أصلًا، وفي هذا الأفق لا معنى إلا للاندهاش كواقعة روحيَّة لا يبدو أننا أفلحنا في الانفلات منه» (المسكيني، 2001)  .

فالاستعداد لمواجهة «الآخر» حضاريًا والتكيُّف والتفاعُل مع مُنجزه، شكَّل أهم تحديات العقْل العربي، حيث اختلفت المقاربات والنظريات والرؤى، وفي التباين والتنوع لم توضع إستراتيجيَّة ومنهَج للتفاعل مع الوافد واستثماره مع المحلي، والملاءَمة بينه وبين المَوروث، فحدَث التنافر وغلبت الأيديولوجيا والقوميَّة والمذهبيَّة على الطرائق العلميَّة التي ترسم العلاقة بين الأنا المتخلِّفة المتشظيَّة والآخر المتحضر، فمشكلات الحضارة تكمن في المنهج الذي بواسطته تُصاغ رؤى البناء والهدم، فتشخيص مظاهر الإنحطاط وتحديد أسبابه، بالتوازي مع تقدير منجزات «الآخر» يشكِّل إستراتيجية للاستفادة من تجارب «الآخر»، كما يجنِّب «الأنا» صدمات التفوُّق ويحقِّق له التميُّز والثقة بالنفس.

وإذا كان التفاوُت فطرة بين البشر والحضارات، فأنَّ «العقل العربي وبالتالي الإنسان العربي أصيب بصدمةٍ عنيفةٍ trauma «منذ حملة نابليون على مصر في عام 1798... بسبب فشله في مواجهة الآخر» (الأعرجي، 2015) .

أنتج منجز الغرب الذي عصابًا ومرضًا في الذهنيَّة العربيَّة هو مجموع انجازات ماديَّة، عسكريَّة، وعمرانيَّة وتفوقٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ، ومشاريع بحثيَّة تمتدُّ عبر الزمان والمكان ودراسات إستراتيجيَّةوإستشرافية لأهم قضايا الإنسان والبيئة.

وطبيعيٌ أنَّ الإحساس بالعجزِ والضعفِ يوَّلد صدمةً مزدوجةً لدى المتلقي، ووفقًا لنظرية «التحدي والاستجابة»، التي أوردها أرنولد توينبي (1889-1961)(Arnold Toynbee) في موسوعته «دراسة التاريخ»، متأثرًا فيها بعلم النفس السلوكي لكارل يونغ (1875-1961)(Carl Yung)، والتي تشير إلى أنَّ الفرد يتعرض لصدمة تفقده توازنه الاجتماعي والثقافيِّ والنفسيِّ  والسياسيِّ ولكنَّه مع مرور الزمن يستفيق ويستجيب لها بنمطين من ردود الفعل، الأول تقَّبل الصدمة وعقلنتها ومحاولة التكيُّف معها والاستفادة منها، وقد يتخذ من الصدمة أرضيَّة جديدة لنهضة حضاريَّة رائدة كاليابان، ودول شرق آسيا، أمَّا ردُّ الفعل الثاني فهو ذلك الفعل السلبيُّ المتمثل في الانطواء والانعزال والتمسك بالوهم والخصوصيات وبكل ما هو هامشيٌ. وباستعراض الأوضاع التي آل إليها الفكر العربي في تعامله مع الصدمة الحضاريَّة الغربيَّة، يمكن استنتاج أنَّ السلبيَّة والانهزاميَّة هي السبيل الذي سلكه العَرب في تعاملهم مع تفوُّق «الآخر».

فقد تمَّ تقزيم المُنجز الحضاري الغربي مع التركيز على إبراز مظاهر الانحلال الثقافي والاجتماعي، مع تبخيس وتحقير للمنجزات الفكرية والماديَّة وتقديم شواهد دعائيَّة منتقاة للإساءة للآخر، وبلغ الاحتقار ذروته حين تمَّ اختزال الحضارة الغربية في مومس لبطل «موسم الهجرة للشمال» أو لبطل «الحيِّ اللاتيني» وهكذا «ليست المعرفة بالآخر مستحيلة أو غير مشروعة ولكن ينبغي أنِ لا يكون ثمنها تصفيته. فمعرفة الإنسان فردًا كان أم جماعةً تمرُّ في النهاية بالآخر، فالهوية نسبتنا إلى الآخر، و المعنى يتولَّد من الفوارق والاختلافات والدلالة تُكتسب من مغايرة الأشياء بعضها ببعض ولوْلا اختلاف الشيء عن الشيء لما كان لشيء معنى على الإطلاق»(حرب،2007)  .

إن إنكار الآخر، ذاتًا أو فردًا أو جماعةً أو انقاص حقِّه أو تقزيم لمنجزاته يعتبر تصفية، ولا تختلف هذه العمليَّة عن عمليات الإبادة الجماعيَّة التي شهدتها الإنسانيَّة تحت أقنعة الاكتشافات  والبعث الحضاري والتنوير، وتقتضي الموضوعيَّة العدل والإنصاف والاتزان في استصدار الأحكام، و الاعتماد على الرؤى العقلانيَّة التي تنصف «الآخر» وتدفع إلى تجسيد مثاقفةٍ واعيَّةٍ، تقوم على النديَّة والعدالة « وغنيٌ عن البيان أنَّ تغيُّر ذهنيَّة الرحالة يستتبعه قلقٌ وتمزقٌ داخليٌ، إذْ يتنازعُ المرء مؤثرات متناقضة، فمن جهة تمسك العربي بهويته الشرقيَّة العربيَّة القائمة على الموروث التليد، الذي مثَّل الاستمرار في الزمن ثم آثار إعجابه بالغرب» (سابا يارد، 1992)  .

تعود الأسس الجوهريَّة لازمةً الهوية العربيَّة وصدامها مع الحضارة الغربيَّة إلى المنجز، بين حضارة علميَّة وتقنيَّة في قمة عطائها وأخرى تعاني التخلُّف والتشظي والضياع، منشغلةً بأسئلة البحث عن الذات، متجاهلةً مكانتها وموقعها في التدافع الحضاريّ، فرهانات النهضة تقتضي الاستثمار في اقتصاد المعرفة، فقد تحوَّلت معايير القوة من الكم إلى النوع والإنتاج بدل الاستهلاك.

هذه الإشكالات هي التي دفعت إلى خلق مناهج جديدة للتعامل مع الآخر الغربي، في محاولةٍ لتقريب الرؤى والأفكار والسلوكات فنشأ علم الاستغراب الذي « يهدف  إذن إلى فكِّ العُقدة التاريخيَّة المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر»(حنفي، 1999)  .

إذا كانت الهوية في مفهومها البسيط هو التميُّز والتفرُّد وامتلاك صفاتٍ واعية للتفريق بين الأنا والآخر، فإن أهمَّ آلية من آليات التميُّز وأبرز صفات التفرُّد، هو العقل، صانع الحضارات، هو العضو الذي يرسم الإستراتيجيات ويرفع التحديات والرهانات النهضوية، قد تمَّ تغييبه في المنظومة الفكريَّة العربيَّة وكانت النتيجة تخلُّف حضاري ومعرفي، على الرَّغم من أنَّ الإسلام قد جعل المحافظة على العقل من مقاصد الشريعة، والمحافظة لا تعني التعليب والتحنيط  والحفظ في المتاحف، فالمقصد يعني حسن الإستخدام وقد أحسن الغرب الإستثمار أداءً وفاعليةً.

جاء في الأثر، عن سلام أبو المنذر عن موسى بن جلبان، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: أثنى قومٌ على رجلٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا في الثناء في خلال الخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عقل الرجل؟ قالوا: يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنَّما يرفع العباد غدا في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم »([15])  

خاتمة

انتقل الرحالة العربي إلى الغرب مهموما بأزماته الحضارية وانهزامياته الفكرية، فكانت مرآة الغيرية عاكسة لهوية مركبة مضطربة، تنازعتها وتجاذبتها رؤى الالتزام بالمكونات الأصيلة من دين ولغة وهي المركبات التي أفرزتها المرجعيات العربية والإسلامية وبين صورة الانفتاح التي أنتجتها العولمة الثقافية وفتوحات ثورة عالم الاتصالات.

جاءت صورة الآخر والغيرية في تصورات الهوية «الإنية» عبارة عن تمثُّلات لصورة «الآخر» المتعالي/ المستعمر، أو «الآخر» المتفوق بتقنياته  وتكنولوجياته الباهرة التي أثارت الإعجاب والانبهار تارة و  الرفض والثورة أحيانا أخرى، ذلك إن الذات الرحالة  تبحث عن تجلياتها وهي تجوب عوالم الغرب بفضاءاته المختلفة، فالهوية هي حضور كل من التاريخ والثقافة والفكر والإرادة في صناعة الفعل الحضاري  بما يجسده من دلالات لعلاقة الإنسان بالمكان والزمان وثقافة المجتمع وانفتاحه على ثقافة الاختلاف ودعواته إلى المثاقفة الندية دون إقصاء أو تهميش أو تقزيم للمنجز الحضاري.

 ولكن التاريخ بصراعاته المتخلفة كشف عن هيمنة غربية على الهويات العالمية، من خلال فرض نموذج ثقافي أحادي يرفض التعددية والانفتاح ويلغي المثاقفة الندية ويكرس التعالي والتهميش.

فقد حاولت المركزيات الغربية رغم دعوات مفكري التنوير إلىالانفتاح واحترام الغيرية تجسيد نموذجها الهوياتي وفرضه على ثقافة المغايرة باعتبارها براديغماللأصولية والتخلف والوحشية والعجز في مواكبة الحضارة والإيمان بقيمها



[1] - يحصي موقع « اللغة الفرنسية الجديدة» حضور مصطلح «هوية» في المعاجم الفرنسية والكتابات الأكاديمية، فيلاحظ التطور المذهل في توظيف اللفظة، ففي الطبعة الرابعة من معجم الأكاديمية الفرنسية لسنة 1762 لم يتجاوز تعريف الهوية جملة قصيرة واحدة ((هو ما يجعل شيئين أو أكثر شيئا واحد)) وتضاعف التعريف أربع مرات في الطبعة الثامنة سنة 1935، ليتغير كليا في الطبعة التاسعة، فيتجاوز التعريفات السابقة حجما ومضمونا (من المعنى الواحد إلى المعاني المتعددة).

واليوم فإن محرك البحث غوغل (Google) يعرض ثلاثين مليون صفحة حين نسائله عن «الهوية» فمن سطرين سنة 1762 إلى ثلاثين مليون، فهذا أمر يثير الدهشة حول انتشار المفهوم وتعدد استعمالاته. ينظر:

http://nouvellelanguefrancaise.hautetfort.com/archive/2006/10/01/identite.html

 

[2]  يذهب جان فرانسوا بايار أن العالم الحديث ((يسيطر عليه وسواس تلاشي التمايزات، فهو يخشى توحيد الأشكال ويشعر بالتالي بقلق الهوية)) وهذه الأفكار مجرد تخمينات وهواجس تدفع إلى الخوف من ضياع الخصوصيات والهويات.وهي استيهامات لاعقلانية لأن لا توجد ثقافات منفتحة وأخرى مغلقة، فالثقافات والحضارات جميعها تتشكل من الاحتكاك و الصراع...ينظر:

Jean François Bayart, l’Illusion Identitaire, Fayard, Paris, 1996.

 

[3] - يعتقد أمين معلوف أن الهوية من الأصدقاء المخادعين لعدم ثباتها وغموضها ووظيفتها فقد تتحول إلى آلية ووسيلة للقتل والاقتتال ((لماذا يرتكب العديد من الأشخاص اليوم جرائمهم باسم هويتهم الدينية والاثنية أو القومية أو غيرها)) ينظر: أمين معلوف، الهويات القاتلة، قراءات في الإنتماء والعولمة، ترجمة، نبيل محسن، ط1، 1999، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق

 

[4]  -ينقسم الكلام إلى موضوع ومحمول، اي محكوم عليه ومحكوم به، والنحاة يسمونهما المبتدأ والخبر، قال المنطقيون لا بد من نسبة توسط بين المحمول والموضوع والّا لم تكن قضية، واللفظ الدال على هذه التسمية يسمى رابطة، فان صرح بها سميت ثلاثية مثل: زيد هو كاتب، وإن أسقطت اعتمادا على فهم المعنى كانت ثنائية مثل: زيد كاتب

 

[5]  - يقول ابن رشد في هذا الباب:« وينبغي أن تعلم أن إسم الهوية ليس هو شكل إسم عربي أصله و إنما اضطر إليه بعض المترجمين فاشتق هذا الاسم من حرف الرباط، أعني الذي يدل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره، وهو حرف «هو» في قولهم: زيد هو حيوان أو إنسان وذلك أن قول القائل أن الإنسان هو حيوان يدل علي ما يدل عليه قولنا الإنسان جوهره أو ذاته إنه حيوان، فلما وجدوا هذا الحرف بهذه الصفة اشتقوا منه هذا الاسم على عادة العرب في اشتقاقها إسما من إسم، فإنها لا تشتق اسما من حرف فدل هذا الاسم على ما يدل عليه ذات الشيء واضطر إلى ذلك كما قلنا بعض المترجمين لأنه رأى دلالته في الترجمة على ما كان يدل عليها للفظ الذي كان يستعمل في لسان اليونانيين بدل الموجود في لسان العرب بل هو أدل عليه من إسم الموجود في كلام العرب لما كان من الأسماء المشتقة وكانت الأسماء المشتقة إنما تدل على الأعراض، خيل إذا دل على به في العلوم على ذات الشيء إنه يدل على عرض فيه كما عرض ذلك ابن سينا، فتجنب بعض المترجمين هذا اللفظ إلى لفظ الهوية » ينظر: أبو الوليد محمد بن احمد بن محمد، ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة.

Averroès, Tafsir ma bada at-tabiat, Bibliotheca Arabica, scholasticorum, série arabe, tome V, 2, texte arabe Inédit établi par, Maurice Bouyges, S.J, Beyrouth, Imprimerie Catholique. MCMXXXVIII, juin 1938, pp, 557-558

 

[6]  معجم التعريفات من أوائل المعاجم الاصطلاحية في التراث العربي، الذي يحدد معاني المصطلحات المستخدمة في الفنون والعلوم والآداب للشريف الجرجاني (740- 816ھ/ 1339- 1413م) وهو غير عبد القاهر الجرجاني (400- 471ھ)(1009- 1078) صاحب نظرية النظم.

 

[7]  الحقيقة المطلقة هي الجوهر الثابت والمطلق، أما الغيب فهو يعين أبطن البواطن، الذي لا يمكن إدراك كنهه أو هويته وقد يعبر عنه باللامعين واللامحدد((غيب الهوية، والغيب المطلق: هو ذات الحق باعتبار اللاتعين. والغيب المكنون والغيب المصون: هو سر الذات وكنهها الذي لا يعرفه إلا هو، ولهذا كان مصونا عن الأغيار، مكنونا عن العقول والأبصار)) ينظر: عبد الرزاق الكاشاني (المتوفى سنة 730ھ) معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق وتقديم وتعليق، الدكتور عبد العال شاهين، دار المنار للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1413ھ/ 1992م، ص ص، 185-186.

 

[8]  idem - - le même لفظة لاتينية تستخدم لتفادي تكرار ما قيل أو ما كتب، أما ميادين استخداماتها فهي: الحسابات، قوائم الجرد، الاقتباسات، وتكتب في الاختصارات غالبا (Id) ينظر:

Dictionnaire de l’académie Française, septième édition, tome second (I-Z) imprimeur de l’institut de France, Paris, 1878, p, 3.                                                                          

 

[9] - الفلسفة الأيونية أو المدرسة الأيونية (lEcole Ionienne) نسبة إلى اسم المدينة الإغريقية القديمة (أيونية) وقد اهتمت كفلسفة بمشكلة أصل الوجود الواحد، ومن ابرز روادها: طاليس، هراقليطسوانكسيمندرس.

 

[10] عبارة (أنا آخر) (Je est un autre) الواردة في الفكر الصوفي لا علاقة لها، بعبارة الشاعر الفرنسي ارتور رامبو (1854 -1891) Arthur Rimbaud)) التي تحمل الألفاظ نفسها في رسالته الموجهة إلى جورج ازامبارد (1848-1931) (Georges Izambard) والمؤرخة في 13 ماي 1871، والمنشورة ضمن رسائل الشاعر الموسومةب: رسائل الرائي(Lettres du Voyant

 

[11]  يدعو الكاتب في مقاربته إلى ضرورة تبنِّي رؤية عقلانية، بعيدة عن الخطاب السياسي الشعبوي، الذي يتجاهل قضايا الاختلاف، ويرى أن الإهتمام بالاختلافات الثقافية عموما والهوياتية خصوصا من شأنه تدعيم الوحدة الأوروبية، ففي معرفة الأصول والجذور ترسيخ لثقافة الاختلاف والتنوع والتعدد « كل هوية تقارن بمدى إيمانها بالاختلاف» ص، 9.

 

[12] المقصود بأجهزة الدولة الأيديولوجية،عدد من الحقائق تتجلى في شكل دساتير مميزة ومتخصصة... ومنها النظم الدينية، العائلية، القضائية، السياسية، الثقافية، الإعلامية والثقافية (كالآداب والفنون الجميلة والرياضة)...)) ينظر كتاب:

Louis Althusser, Idéologie et appareils idéologiques d’état (Notes pour une recherche) in Positions (1964-1975) les éditions sociales, Paris, 1976, p, 73. 

 

[13]  - يُقصد بالصدمة الحضارية، حالة العصاب والرهاب التي تصيب الذات من لقائها بالآخر وإدراكها للقيمة الفائقة لمنجزاته العلمية والتقنية والإنسانية ثم مقارنتها مع المنجز الذاتي، حيث ينتج عن معرفة الفوارق حالات نفسية واستجابات مختلفة ومتباينة. والصدمة الحضارية تختلف عن الصدمة الثقافية التي تعود إلى عالم الإنسانيات الأمريكي كالفيرواوبيرغ KalveroOberg (1901-1973) والتي هي عبارة عن إحساس نفسيوجسدي بالتوتر والقلق والشعور بالضياع لمن يهاجر ويرتحل عن منطقته التي عاش فيها طوال عمره، إلى منطقة أو دولة تتميز بعادات وتقاليد مختلفة ومناخات ثقافية مغايرة

 

[14]  - ذكر الطهطاوي في كتابه (تلخيص الإبريز) وخير الدين التونسي في كتابه ( أقوم المسالك) أنهما نهلا من أمهات الكتب الفرنسية في الفلسفة والقانون، فقد قرأ الطهطاوي كتب فولتير(1694-1778) ومنها « معجم الفلسفة» ومؤلفات روسو(1712-1778) ومنها «عقد التآنس والاجتماع الإنساني» و»روح الشرائع» لمونتسكيو (1689-1755).أما خير الدين فقد اطلع على فرانسيس بيكون(1561-1626) ومونتيني (1533- 1592) وديكارت وغيرهم.

 

[15]  الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773هـ-852هـ) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق عمر إيمان أبو بكر، المجلد الثاني عشر، دار العاصمة للنشر، الرياض، 1420هـ/200م، ط1، ص،117، رقم الحديث، 2786.

 

المراجع

ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، دار صادر، المجلد الخامس عشر،  (د ت)

ابن هشام (المتوفى سنه 213ھ أو 218ھ) السيرة النبوية، تعليق، محمد أحمد بن حسين الخطيب، عمر عبد السلام تدمري، الجزء الأول، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1410ھ/ 1990م،

أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي: الكليات، معجم في المصطلحات و الفروق اللغوية، أعده للطبع، عدنان درويش، محمد المصري، مؤسسة الرسالة، للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1419ھ/1998م ، ط2، ص، 961.

أدونيس، الصوفية والسوريالية، دار الساقي، ط 3،

ادغار موران، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة، هناء صبحي، ط1، 1430هـ/2009م، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث- كلمة- أبوظبي

أمين معلوف، الهويات القاتلة، قراءات في الإنتماء والعولمة، ترجمة، نبيل محسن، ط1، 1999، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق

هارلمبس وهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ترجمة حاتم حميد محسن، دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2010

حسن حنفي، الهوية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2012

حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية للنشر والتوزيع، القاهرة، 1411هـ- 1999م 

حيدر إبراهيم علي، صورة الآخر المختلفة فكريا، سوسيولوجيا الاختلاف والتعصب، مجلة نقد للدراسات والنقد الاجتماعي، العدد،10،الجزائر

11- حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2005

الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773هـ-852هـ) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق عمر إيمان أبو بكر، المجلد الثاني عشر، دار العاصمة للنشر، الرياض، 1420هـ/200م، ط1

محمد راتب حلاق، نحن والآخر- دراسة في بعض الثنائيات المتداولة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997

محمد عابد الجابري، إشكالات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1،  حزيران/ يونيو 1989

نازك سابا يارد، الرحالة العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، دار نوفل، ط 2، 1992، 

 السيد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق الدكتور ضاحي عبد الباقي، الجزء الأربعون، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ط1، الكويت، 1422ھ/ 2001 م

مراد وهبة، المعجم الفلسفي، دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2007

المعلم الثاني الحكيم أبي نصر محمد بن محمد بن اوزلغ بن طرخان الفارابي، التعليقات، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد،1346ھ

عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، حقّقها، عبد السلام الشدادي، الجزء الرابع، ط1، بيت الفنون والعلوم والآداب، الدار البيضاء، 2005  

عبد العزيز الدوري، الهوية الثقافية العربية والتحديات، ضمن كتاب: الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، تشرين الثاني/نوفمبر2013

علاء الدين صادق الأعرجي، أزمة التطور الحضاري العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، مطبوعات أي- كتب، لندن، ط5، 2015

علي حرب، خطاب الهوية، سيرة فكرية، منشورات الاختلاف، الجزائر، 1429ھ /2008م

علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني، معجم التعريفات، تحقيق ودراسة، محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة

 فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة «النحن»، دار الطليعة، بيروت، ط1، آب/ أغسطس،2001

صمويل ب. هنتنجتون، من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أمريكا، ترجمة أحمد مختار جمال، ط1، المركز القومي للترجمة، 2009، القاهرة

رسول محمد رسول، محنة الهوية (مسارات البناء وتحولات الرؤية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2002

الخليل بن أحمد الفراهيدي ( المتوفى سنة 170ھ) كتاب العين، ترتيب وتحقيق، عبد الحميد هنداوي، الجزء الرابع (ك - ي) منشورات محمد علي بيضون،  دار الكتب العلمية، لبنان، 1424ھ/2003م

Averroès, Tafsir ma bada at-tabiat, Bibliotheca Arabica, scholasticorum, série arabe, tome V, 2, texte arabe Inédit établi par, Maurice Bouyges, S.J, Beyrouth, Imprimerie Catholique. MCMXXXVIII, juin 1938 .    

Alain De Benoist, Nous et les Autres, problématique de lidentité, Editions Krisis, Paris, 2006

Barus Michel Jacqueline, Eugene Enriquez, et André Levy (sous la direction) Vocabulaire de psychosociologie: Positions et références, Editions Eres, Paris,  2007

Bernard Lamizet, Politique et Identité, Edition PUL (Presses Universitaires de Lyon) 2002

Catherine Halpern, Faut-il en finir avec lidentité? Revue sciences humaines, Ne 151,2004/7, Editions sciences humaines, Paris.

Dictionnaire de lacadémie Française, septième édition, tome second (I-Z) imprimeur de linstitut de France, Paris, 1878

Dictionnaire latin- français, Félix Gaffiot, Hachette, Paris, 1934

Denis-Constant Martin (sous la direction de) lIdentité en jeux, pouvoirs, identifications, mobilisations, éditions, Karthala, Paris, 2010

JeanLuc Lefèvre, La Question de lidentité Européenne. Européen, qui es-tu? Dou viens-tu? Mon éditeur, Paris, 2013.

Jean François Bayart, lIllusion Identitaire, Fayard, Paris, 1996.

NGuessan Kouadio Germain, Identités collectives et construction nationale dans le roman Ivoirien, Editions Publibook, Paris, 2010

Stamatios Tzitzis, lIdentité culturelle et humanisme, de la Grèce antique à    lEurope moderne, Editions Buenos books International, Paris,2011,(lIntroduction) .

13-  Sylvester N.Osu, Gilles Col, Nathalie Garric et Fabienne Toupin (eds), Construction didentité et processus didentification, Peter Lang, Editions scientifiques Internationales, Berne, 2010

Sophie Duchesne (sous la direction), lIdentité Européenne entre science politique et science fiction,  Revue politique Européenne, Ne,30, lHarmattan, Paris, 2010

Voltaire, Dictionnaire Philosophique, Tome Neuvième, Edition Stéréotype, Paris, 1816

Y.S.Live et J.F.Hamon, lIdentité et la construction de lidentité dans les iles du sud-ouest de locéan Indien, Editions lHarmattan, Paris

http://nouvellelanguefrancaise.hautetfort.com/archive/2006/10/01/identite.html

http://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/identité/41420, consulté, 24/10/ 2016

محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية عشر أطروحات، منشور على موقع: 

http://www.aljabriabed.net/n06_01jab_awlama.html 

@pour_citer_ce_document

مكي سعد الله, «الهوية بين التأصيل المعرفي والمثاقفة الحضارية»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 195-211,
Date Publication Sur Papier : 2023-06-26,
Date Pulication Electronique : 2023-06-26,
mis a jour le : 26/06/2023,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=9417.