من فلسفة التاريخ إلى فلسفة الثقافة: بحث في الـتأسيس الفلسفي للتعددية الثقافية عند هردر From the philosophy of history to the philosophy of culture: research on the philosophical foundation of cultural pluralism in Herder De la philosophie de l’histoire à la philosophie de la culture : recherche sur le fondement philosophique du pluralisme culturel chez Herder
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 20-2023

من فلسفة التاريخ إلى فلسفة الثقافة: بحث في الـتأسيس الفلسفي للتعددية الثقافية عند هردر
De la philosophie de l’histoire à la philosophie de la culture : recherche sur le fondement philosophique du pluralisme culturel chez Herder
From the philosophy of history to the philosophy of culture: research on the philosophical foundation of cultural pluralism in Herder
ص ص 224-237
تاريخ الاستلام 2022-05-22 تاريخ القبول 10-04-2023

ياسين كرام
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يتناول هذا المقال الصراع الفكري حول فلسفة التاريخ في عصر التنوير الذي دار بين الفلاسفة الفرنسيين من جهة والفيلسوف الألماني يوهان غوتفريغ هردر من جهة أخرى، وكيف قاد النقد الذي قدمه هذا الأخير للأسس التي قامت عليها فلسفة التاريخ كما صاغها فلاسفة التنوير الفرنسي إلى التأسيس الفلسفي لفكرة تعدد الثقافات والقيم. حيث أدرك هردر أنه لا يمكن تحقيق فهم حقيقي وموضوعي للتاريخ ومكوناته من خلال تطبيق معايير عقلية كلية وشاملة. لهذا اقترح فهم كل ثقافة وكل مرحلة تاريخية وفق قيمها المحلية والخاصة بها.

Cet article aborde la querelle sur la philosophie de l’histoire au Siècle des Lumières, entre les philosophes français d’une part et le philosophe allemand Johann Gutfrig Herder d’autre part,  et focalise aussi sur la critique herderienne des fondements de la philosophie de l’histoire selon les philosophes des lumières français, et comment a conduit cette critique  à fonder l’idée d’un pluralisme culturel  et des valeurs. Herder s’est rendu compte qu’une compréhension véritable et objective de l’histoire et de ses composantes ne pouvait être réalisée en appliquant les principes de rationalisme des lumières.  C’est pourquoi il a proposé d’appréhender chaque culture et chaque période historique selon ses propres valeurs spécifiques

This article discusses the quarrel over the philosophy of history in the Enlightenment, between the French philosophers on the one hand and the German philosopher Johann Gutfrig Herder on the other,  and also focuses on Herder’s criticism of the foundations of the philosophy of history according to the French enlightenment philosophers, and how this criticism led to the founding of the idea of cultural pluralism and values. Herder realized that a true and objective understanding of history and its components could not be achieved by applying the principles of enlightenment rationalism.  This is why he proposed to understand each culture and each historical period according to its own specific values

Quelques mots à propos de :  ياسين كرام

Dr. Yacine Kerram  جامعة  محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائرkerramyacine@gmail.com

مقدمة

إن المتأمل في عصر التنوير يكتشف أنه لم يكن متجانسا من الناحية الفكرية ولم يكن يدافع فقط عن العقلانية، بل عرف تيارا فكريا مناقضا للعقلانية يُعرف بتيار «المناهضين للتنوير»-حسب ما يسميه المؤرخ زئيف ستيرنهال (Zeev Sternhell) أو بالفلاسفة الرومانسيين الأوائل كما يسميهم الفيلسوف الألماني أرنيست كاسيرر (Arnst Cassire) والفيلسوف الانجليزي ايزايا برلين (Isaiah Berlin)

وإذا كان عصر التنوير يعتبر أن هناك حقائق عقلية ومنطقية تحكم الطبيعة وجميع مظاهرها فإنه أيضا كان يؤمن أنه يمكن تطبيق هذا التصور المعرفي العقلاني على المعرفة التاريخية من أجل فهم حياة الأفراد والمجتمعات وكل ما تنتجه هذه الكيانات، لأنه يفترض أن التاريخ مثل الطبيعة تحكمه قوانين منطقية وموضوعية، ومن أجل فهم مسار التاريخ وكل ما يتضمنه من مكونات ينبغي تطبيق النموذج العقلاني، ويعد التنوير الفرنسي أفضل ممثلي لهذا التوجه. إلا أنه وفي المقابل تنامى داخل هذا العصر (عصر التنوير) حركة معادية كان روادها فلاسفة ألمان تبنت قناعات مناهضة للنزعة العقلانية هدفها رد الاعتبار لكل من الطبيعة والتاريخ من خلال تحريرهما من الرؤية العقلانية الباردة التجريدية، وبالمقابل رد الاعتبار للقوى الحيوية في الإنسان وفي الطبيعة والإعلاء منها. 

انطلاقا من الصراع الذي حدث بين فلاسفة التنوير الفرنسي والفلاسفة الألمان المناهضين للعقلانية التنويرية حول التاريخ ومكوناته انبثق تصوران مختلفان حول فلسفة التاريخ الأول يمثله فولتير وأشياعه. حيث يقوم على العقلانية والعالمية وفكرة التقدم العقلي، والتصور الثاني يمثله الفيلسوف الألماني غوتفريد يوهان هردر (Johann Gottfried Herder)(1744-1803) ومن سار على نهجه، الذي تبنى مقاربة جديدة تستند على فكرة الخصوصية في مقابل العالمية، والقيم الحيوية والروحية في مقابل الرؤية العقلانية.

هذا الصراع أسس فيما بعد لرؤيتين مختلفتين حول الثقافة: الثقافة بالمفهوم الفرنسي والثقافة بالمفهوم الألماني؛ اختلاف يعود بالأساس إلى تباين المنطلقات الفكرية، فالفرنسيون يعتبرون أن الثقافة هي ما نتعلمه من خلال التربية العلمية والفنية والعقلية، هي كل ما ينقل الإنسان من حالة التخلف والهمجية إلى حالة التقدم والتحضر. والذي يجسد هذا المفهوم بشكل واضح هي فكرة التقدم العقلي في التاريخ، وهي فكرة رائجة في عصر التنوير مفادها أن الإنسانية تسير نحو التقدم والتطور والتحضر واعتبروا الوسيلة التي تحقق هذا التقدم هو العقل بمفهومه الكوني المجرد. ومنه فإن الثقافة الجديرة بهذا المفهوم والجديرة بالتعلم هي الثقافة المرتبطة بالعقل وبالعلم وما عدى ذلك يمكن تجاوزه والتخلي عنه. وبهذا فان الثقافة التي يدعو إليها الفرنسيون في عصر التنوير هي الثقافة التي تجعل من الأفراد مواطنين عالمين ومتحضرين وعقلانيين. حيث تؤمن هذه الثقافة فقط بالقيم العقلية أي القيم العالمية المشتركة بين الناس، ومنه تجاوز كل ما هو محلي، وعرقي، وديني لصالح ماهو عالمي، وحضاري، وعقلي. وهذا التصور الفرنسي للثقافة هو في النهاية انعكاس لروح عصر التنوير القائم على العقلانية والعالمية.  

وبالمقابل نجد الألمان، الذين كانوا يعيشون في عصر التنوير وضعا فكريا وسياسيا واجتماعيا مختلفا عن الفرنسيين، كانوا يروجون لمفهوم آخر للثقافة مختلف عن التصور التنويري أي مختلف عن التصور الذي يروج لفكرتي العالمية والعقلانية المجدرة، حيث يولي الاهتمام بما هو محلي وخصوصي في مقابل ما هو عالمي، وديني وحيوي في مقابل ما هو عقلاني. فالثقافة عند الألمان تشمل العادات والتقاليد والمعتقدات والأساطير والأذواق وليس شرطا أن تكون الثقافة هي نتاج التفكير العقلي المنطقي كما يعتقد التنوير الفرنسي. ويعد الفيلسوف الألماني هردر من الفلاسفة الألمان الذين دافعوا عن هذا المفهوم الواسع للثقافة والأب الممثل للرؤية الألمانية للثقافة في عصر التنوير. وقد عبر عن ذلك في كتابه: فلسفة أخرى للتاريخ الذي كتبه عام (1774) حيث تصدى للفهم التجريدي للثقافة كما روج له فلاسفة التنوير الفرنسي في كتاباتهم مقدما فهما آخر أكثر واقعية وحيوية للثقافة.

إذن نحن أمام تصورين للثقافة في عصر التنوير الأول يمثله الفرنسيون الذين أمنوا بالثقافة التي تعبر عن روح عصرهم المتمثل في العقلانية وفكرة التقدم، والقيم العالمية، والثاني مثله الرومانسيون الألمان، وبالخصوص هردر، الذي يعتبر الثقافة مرادفة لـ»روح الشعب» حيث تتجلى هذه الروح في مجموع الأشعار والأساطير والمعتقدات والعادات والتقاليد التي تميز كل شعب، ولما كانت الشعوب مختلفة فإن الثقافات بدورها مختلفة ومتنوعة.

إذا كان هردر وليد عصر التنوير، عصر العقل، إلا أن توجهه الفكري لم يكن في الاتجاه نفسه الذي كانت تؤسسه وتروج له فلسفة هذا العصر القائمة على: العقلانية، والعالمية وفكرة التقدم. حيث طور، على النقيض من ذلك، أفكارا تنتقد هذه الأسس التي قامت عليها فلسفة التنوير وهذا النقد في النهاية أسس لتوجه فلسفي آخر في قلب عصر التنوير يساءل ويثور على مخرجات النزعة العقلانية التي تزدري القيم الحيوية والدينية، والعالمية التي تلغي الخصوصيات المحلية، والتقدم الذي يسيء إلى المراحل التاريخية السابقة. وبالمقابل أسس لفكرة التعددية الثقافية التي تضمن الدفاع عن خصوصيات الثقافية وتعترف بالقيم الحيوية وأهميتها.

إن هذا الصراع الفكري الذي دار بين هردر وفلاسفة التنوير الفرنسي حول الثقافة كان في الأصل صراعا حول فلسفة التاريخ، أو بالأحرى النقد الذي وجهه هردر لفلسفة التاريخ كما صاغها فلاسفة عصره هو الذي قاده إلى تأسيس رؤية فلسفية للتعددية الثقافية. ولهذا فإنه من أجل الإجابة عن الاشكالية المتعلقة بتشكّل الرؤية الهردرية (نسبة إلى هردر) حول التعددية الثقافية ينبغي أولا أن ننطلق من نقده لفلسفة التاريخ لأن أفكاره حول فلسفة التاريخ هي التي قادته إلى تقديم رؤية جديدة وثورية حول مفهوم الثقافة ومكانة الثقافات وأهميتها في التاريخ. لهذا فإننا في هذا المقال سنحاول أن نتطرق أولا إلى فلسفة التاريخ عند هردر ومن خلالها سنحاول أن نقدم رؤيته حول التعددية الثقافية.

من فلسفة التاريخ إلى فلسفة أخرى للتاريخ:

    في نقد هردر لفلاسفة التنوير

أسس هردر فلسفته في التاريخ من خلال صراعه الفكري الذي دار بينه وبين فلاسفة التنوير عموما والتنوير الفرنسي بالخصوص. حيث كانت أفكاره نقدا لتحليلات: هلفيتيوس (Helvétius) التي عرضها في كتابه في الروح De lesprit 1758م، وبولنجي (N. A.Boulanger)  في كتابه:  Recherches sur  بحوث في أصل الاستبداد الشرقي lorigine du despotisme oriental   1762م اللذان لم يفهما الاستبداد الذي ساد في مرحلة المجتمعات البداية، حيث ذهب بولنجي إلى أن الاستبداد نشأ في البدايات الأولى للإنسانية لما اتخذ الناس وسائط لضمان العلاقة بينهم وبين الكائن الأعلى، وتدريجيا تولد لديهم استعداد للخضوع لهذه الوسائط وخدمتها، ليخلص إلى القول أن الدين هو أصل الاستبداد (Laurent, 2010  وضد دالمبير  DAlembert في خطابه التمهيدي للموسوعة «Discours préliminaire à l’  Encyclopédie» الذي كان خطابا يعلي من شأن عصر التنوير واعتباره أفضل العصور، كما كان أيضا ضد مونتسكيو (Montesquieu) الذي حاول في كتابه «روح الشرائع» أن يقبض، تحت تأثير النزعة العقلية، على مجرى التاريخ وديناميكية الحضارات في بعض القوانين العامة، وأيضا ضد فلسفة فولتير (Voltaire) الذي اجتمعت فيه حقه كل الانتقادات السابقة . (Raulet, 1995).

عبّر هردر عن نقده للفلسفة التنويرية الفرنسية بشكل جلي في كتابه المهم: فلسفة أخرى للتاريخ من أجل تربية الانسانية. اسهام يضاف إلى اسهامات العصر. Une autre philosophie de lhistoire : pour contribuer à léducation de lhumanité. Contribution à beaucoup de contributions du siècle الذي كتبه عام 1774. هذا الكتاب، في حقيقة الأمر، جاء كرد فعل على أفكار فلاسفة التنوير الفرنسي وبالخصوص فولتير الذي كتب قبل عشر سنوات، أي في عام 1765، كتابا حمل عنوان: «فلسفة التاريخ للقس بازل». حيث صاغ فولتير في هذا الكتاب فلسفة للتاريخ تتوافق مع روح عصره المتمثلة في العقلانية. ودر عليه هردر بكتاب آخر يحمل عنوانا مشابها ولكن له دلالة عميقة تلخصه كلمة «أخرى» (Herder, 1964). فلماذا عنون هردر كتابه بـ: فلسفة أخرى للتاريخ وليس فلسفة التاريخ وفقط؟ قبل الاجابة عن هذا السؤال سنحاول أولا أن نعرض الأسس التي قامت عليها فلسفة التاريخ كما صاغها فلاسفة التنوير ثم نتطرق إلى دلالة عنوان كتاب هردر «فلسفة أخرى للتاريخ».

إن عصر التنوير هو عصر العقل بامتياز، حيث كان يروج في هذه المرحلة لفكرة مفادها أن التاريخ كما الطبيعة يمكن دراسته دراسة عقلية والحكم عليه وفق معايير مستمدة من العقل. فلما كانت العقلانية هي المهيمنة في هذه المرحلة فإن هذا النموذج العقلاني امتد كذلك إلى ميدان الدراسات التاريخية حيث أصبحت الأحداث والمراحل التاريخية يتم فهمها وفق معايير عقلية مجردة، إلا أن هذه الطريقة في فهم التاريخ، في نظر هردر، تحول دون الفهم الحقيقي والأصيل للتاريخ وكل ما يضمه من ثقافات وشعوب.

لقد أدرك هردر خطورة المنهج الذي يعتمد على المعايير العقلية في دراسة التاريخ، وأدرك أن فولتير أراد أن يحدث في ميدان الدراسات التاريخية ما قام به نيوتن في ميدان العلوم الطبيعية حين اعتبر أن الطبيعة تحكمها قوانين موضوعية ودور الفيزيائي ومهمته هو الكشف عن هذه القوانين، المقاربة نفسها تبناها فولتير حين حدد عمل المؤرخ بطريقة تشبه عمل الفيزيائي في علاقة بالطبيعة، فكلاهما يسعيان إلى اكتشاف القوانين الكامنة خلف الظواهر الطبيعة بالنسبة لنيوتن، والأحداث التاريخية بالنسبة لفولتير، ولما اعتبر نيوتن أن القوانين الطبيعية مستقلة عن كل ما هو غيبي ديني فكذلك الأمر بالنسبة للأحداث التاريخية هي مستقلة عن التأثيرات الدينية والغيبية، حيث أراد فولتير بمقاربته العقلانية تحرير التاريخ من التفسيرات الميتافيزيقية والدينية تماما مثل ما تم تحرير الطبيعة من قبل مع نيوتن (Cassirer, 1996).

من السهل أن نفهم أن فلسفة التاريخ التي صاغها فولتير، وكل من سار على نهجه، تريد أن تبعد فكرة العناية الإلهية وتبعد تأثير الرب في مجرى التاريخ بعدما أبعده نيوتن من الطبيعة، كما أنها تسعى إلى التأسيس لرؤية فلسفية تمجد العقل فقط وبالمقابل الحط من كل ما لا يتوافق معه من المعايير والقيم.

تكوين هردر الديني جعله يرفض هذه الفكرة التي تلغي دور الرب في حياة البشر وفي التاريخ وفي الطبيعة، وبالخصوص أن الفرنسيين كان لهم موقف عدائي شديد تجاه الدين. هذه العدائية انتقلت بشكل تلقائي إلى ازدراء واحتقار كل الثقافات والشعوب والمراحل التاريخية التي يعد الدين عاملا أساسيا في تكوين وعيها وثقافتها.

لم تقم فلسفة التاريخ التنويرية على فكرة العقلانية وحسب وإنما أيضا على الايمان أن العقل هو المستقبل الوحيد والأفضل للإنسانية. هذا الايمان هو ما جسدته وعبرت عنه فكرة التقدم العقلي في التاريخ. ومفاد هذه الفكرة أن الإنسانية في تقدم مستمر، والتقدم المقصود هنا هو تقدم الأفكار وقوى الفهم العقلية وكأن البشرية جمعاء تسير نحو طريق واحد للفهم والتفكير؛ أي نحو النموذج المعرفي العقلي (ويزرمان وآخرون، 1986) أما المعرفة التي تقوم على الدين والاحساس والأسطورة فهي متعلقة فقط بالمجتمعات التقليدية التي تمثل مرحلة التفكير السطحي والساذج. لهذا اعتبرت فلسفة التاريخ التنويرية أن مستقبل الانسانية ليس في ما تقدمه المعرفة الدينية الأسطورية وإنما في المعرفة العقلية، وأنه كلما زادت المعرفة العقلية كلما زاد كمال الجنس البشري وسعادته.

هذا التصور الجديد للتاريخ حمل وعدا وأملا في مستقبل انساني متطور وفاضل قوامه العقل. ومما زاد من قناعات هذا التصور المتفائل هو ما شهدته أوروبا آنذاك من انتشار للمعارف وتقدم علمي غير مسبوق وتراكم للثروات والتنظيم العقلاني للمجتمعات. ولم تكن فكرة التقدم التي طرحها فلاسفة التنوير مقتصرة فقط على فرنسا وأوروبا وحسب إنما كانوا يؤمنون أنه تقدم مطلق وحتمي يشمل الانسانية جمعاء. (ويزرمان وآخرون، 1986)

إن فركتي العقلانية والتقدم تقودنا إلى فكرة أخرى قامت عليها فلسفة التاريخ التنويرية وهي العالمية. إن وسيلة تحقيق التقدم الذي تصوره فلاسفة التنوير هي العقل بمفهومه الكوني. لهذا اتخذوا منه معيارا لفهم كل تاريخ البشرية وتحديد مسارها المستقبلي، حيث تم فهم تاريخ البشرية والحكم على كل مكوناته من حضارات وشعوب وثقافات من خلال العقل ومعاييره. ولما كانت الثقافة التنويرية هي ثقافة تؤمن فقط بالقيم العقلية؛ القيم العالمية المشتركة بين الناس فإنها عملت على إدانة كل ما لا يتوافق مع العقل ودعت إلى تجاوز كل ما هو محلي، وعرقي، وديني لصالح ماهو عالمي، وحضاري، وعقلي. ومن تبعات النزعة العالمية هو ادانة الاختلاف الثقافي وكل ما يحمله من مكونات تتعارض مع القيم العقلية العالمية. 

في مقابل هذا التوجه الذي تأسست عليه فلسفة التاريخ التي قدمها فلاسفة التنوير حاول هردر أن يقدم فلسفة أخرى للتاريخ تطمح إلى إعادة فهم التاريخ بطريقة لا تلغي التعددية الثقافية ونسبيتها. وإدراج هردر لكملة أخر مهم جدا في فهم مقاربته فكلمة «أخرى» تحمل دلالة عميقة تكشف عن توجه فكري جديد مغاير لفلسفة التاريخ التي صاغها فلاسفة التنوير. ولما كانت هذه الفلسفة التنويرية قائمة على النموذج العقلاني فلن تكون هناك فلسفة أخرى للتاريخ إلا من خلال تقديم فلسفة مغايرة تستند على أسس مختلفة عن الأسس العقلانية المجردة التي قامت عليها الفلسفة التنويرية، أي من خلال الثورة على أسس المقاربة التنويرية للتاريخ والمتمثلة في: النزعة العقلانية، النزعة الكوسموبوليتانية وفكرة التقدم العقلي في التاريخ.

في نقد النزعة العقلانية

إن ما يثير الإشكال عند هردر في فلسفة التاريخ كما صاغها فلاسفة التنوير هي تبعات هذه الفلسفة نفسها على التاريخ ومكوناته من حضارات وثقافات وشعوب وأنماط التفكير التي كانت سائدة عند هذه الشعوب والثقافات وكذا المراحل التاريخية. فلما كانت فلسفة التاريخ التنويرية قائمة على النموذج العقلاني وعلى فكرة التقدم العقلي، والعالمية المجدرة فإن هذه الفلسفة حاولت أن تفهم التاريخ فهما عقلانيا، وحكمت على الحضارات والثقافات والشعوب وكل المراحل التاريخية من خلال قيم ومعايير عقلية. لهذا اعتبر أن فلاسفة التنوير وقعوا في خطأ منهجي حينما جعلوا من النموذج العقلي معيارا وحيدا لفهم التاريخ. فلما كانت العقلانية من ابداع الحداثة وتجلت وبلغت هذه العقلانية أوجها في عصر التنوير فإن فلاسفة التنوير حاولوا أن يفهموا التاريخ من خلال النموذج المعرفي الذي كان سائدا في عصرهم، في حين أن العقلانية لم تكن نمطا فكريا سائدا عند كل الحضارات والشعوب والثقافات السابقة. وبذلك فإن فلاسفة التنوير طبقوا نموذجا معرفيا غريبا عن المراحل التاريخية السابقة. حيث حكموا على كل المراحل التاريخية من خلال ثقافتهم ومعاييرهم الخاصة بهم والتي تقوم على العقلانية، في حين أن المجتمعات والثقافات والمراحل التاريخية السابقة كانت قائمة على الحكم الاستبدادي والفكر الذي يؤمن بالأسطورة والخرافة والدين أو لنقل على أمور كانت متعارضة مع الثقافة العقلانية التي تأسس عليها عصر التنوير. وكنتيجة لذلك بدت هذه الثقافات والشعوب والمراحل التاريخية السابقة على أنها مراحل وثقافات وشعوب بدائية، همجية ومتخلفة مقارنة مع عصر التنوير.

في هذا الشأن توجه هردر بالنقد إلى فلاسفة التنوير الفرنسي الذي أدانوا الحضارات الشرقية القديمة وبالتحديد مظهرين من مظاهر الحياة في المجتمعات الشرقية وهما: الاستبداد السياسي، والتفكير الديني الخرافي. ومن الفلاسفة الذين ينتقدهم هردر نذكر منهم: هلفيتيوس (Helvétius)  في كتابه De lesprit 1758م الذي يرى في الاستبداد غريزة إنسانية تدفعه إلى السيطرة على الآخرين، وبولنجي (N. A.Boulanger)  في كتابه: Recherches sur lorigine du despotisme oriental   1762م الذي يرى أن الاستبداد نشأ في البدايات الأولى للبشرية حين اتخذ الناس وسائط ضرورية لضمان العلاقة بينهم وبين الكائن الأعلى، وتدريجيا تشكلت لديهم العادة والاستعداد للخضوع التام لهذه الوسائط، ليصل في النهاية إلى القول أن الدين هو مصدر الاستبداد (Giassi, 2010)لقد جعل فلاسفة التنوير الفرنسي الاستبداد مقولة عامة تنطبق على الحضارات الشرقية فحكموا على الشعوب الشرقية بالخنوع والطاعة العمياء وأنها أكثر الشعوب تجسيدا لمعاني العبودية، والتقاعس عن نشدان الحرية وكسر قيود  الذل والهوان.

أما هردر فكانت له نظرة مخالفة فيما يخص الاستبداد الحاصل في هذه الحضارات الشرقية حيث افترض أن الاستبداد الذي طبع العصور البدائية يعد النظام الوحيد والملائم لتطور وتقدم الإنسانية. واعتبر أن هذه الشعوب البدائية تمثل مرحلة الطفولة الإنسانية ما يعني أنها مازالت تعيش تحت النظام الأبوي حيث تحتاج إلى من يرعاها ويوجهها. ويشبه هردر الاستبداد الذي يتكلم عنه فلاسفة التنوير باستبداد الأب الممارس على ولده الصغير الذي يحتاج إلى توجيه ورعاية في هذه المرحلة من العمر، كذلك الأمر بالنسبة للإنسانية فلما كانت الشعوب الشرقية القديمة تمثل مرحلة الطفولة، أي طفولة الإنسانية، فهذا يعني أن هذه الشعوب تحتاج إلى الرعاية والتوجيه من قبل أنظمة ودساتير مستبدة لأن ذلك يتلاءم كثيرا مع مستوى تطورها السياسي والفكري، ولذلك يعتبر هردر أن النظام الاستبدادي يعد نظاما ضروريا للإنسانية في هذه المرحلة كونها لا تستطيع أن تتعلم شيئا لوحدها دون رعاية وتوجيه واملاء. ولما كانت الحضارات الشرقية تثمل طفولة الانسانية فإن الطفل الصغير لا نتحاور معه أو نستشيره بل نلقي عليه الأوامر إلقاءً، كما أن البشر في هذه المرحلة لا يستطيعون استعمال العقل والعقل وحده في تنظيم حياتهم كون أن الإرهاصات العقلية لدى الأفراد لم تتطور بعد ومازالت في بداياتها لهذا عملوا على الاستعانة بالتصورات والخيالات التي تبدو أنها خاطئة لكنها في زمنهم هي ضرورية ومفيدة (Herder, 1964) ويـؤكد هردر ذلك بقولـه منتقدا فلاسفة عصره: «إن ما تسميه بالاستبداد هو في صورته الأكثر جلاء لم يكن في الحقيقة إلا مجرد سلطة أبوية غايتها تدبير أمور وشؤون البيت والمسكن» (Herder, 1964) « d.p.127.enant renoncer&s avec toute la froide philosophie de ton siècle il «te faudrait sans بالتصورات و الخيالات التي تبدوا إن الإنسانية في بداياتها كالطفل الذي يخضع لسلطة أبيه الذي لا يستطيع أن يكبر ويعتني بنفسه إلا بخضوعه لهذه السلطة الأبوية. وهردر لما سعى إلى رد الاعتبار للاستبداد الذي أدانته عقول التنوير في الحضارات الشرقية فإن هذا لا يعني أنه يمجد الحكم الاستبدادي في كل العصور وفي كل الحكومات وإنما يرى أن مكانه الطبيعي والملائم هو فقط في مرحلة طفولة البشرية. فالصبي وهو يكبر فإنه يتحرر شيئا فشيئا من تبعيته لوالديه ليصبح مع مرور الوقت أكثر استقلالية وتحررا. وما يُعِيبهُ هردر على هؤلاء الفلاسفة هو عجزهم عن فهم أهمية السلطة الأبوية ومنه أهمية الاستبداد الشرقي القديم في تنظيم شؤون الحياة الاجتماعية. وما منعهم من إدراك ذلك هو رؤيتهم للأشياء من خلال معايير عصرهم ومن خلال نظرتهم العقلية الباردة لمظاهر الحياة عند الشعوب الاخرى. لأن الاستبداد لم يكن بذلك الرعب الذي يتصوره فلاسفة التنوير ولم يكن وقعه على شعوب الحضارات القديمة مرعبا مثل ما يتصوره فلاسفة التنوير. وفي هذا الشأن يقول وهو يتوجه بنقده لفلاسفة التنوير الفرنسي: بولنجي وهلفيتيوس وفولتير ومونتسكيو فيقول: «لقد تعودّنا على مفهوم الاستبداد الشرقي المستمد من التعابير الأكثر مبالغة والمظاهر الأكثر عنفا لإمبراطوريات اندثرت غالبيتها، هذا الاستبداد هو مجرد لحظة احتضار- وهو كذلك- مرحلة احتضار- ولما كنا نستند إلى طرق تفكيرنا (وربما شعورنا) الأوروبية لم يكن بمقدورنا الحديث عن ما هو أكثر رعبا من الاستبداد فنحن نآسي أنفسنا بإخراجه من سياقاته التي تبلور فيها وإدخاله في سياقات لم يكن فيها مرعبا بالشكل الذي نتصوره انطلاقا من زاوية حكمنا نحن» (Herder, 1964)

إن إعادة الاعتبار للاستبداد في الحضارات الشرقية صاحبه أيضا رد الاعتبار للدين بصفة عامة وللديانات الشرقية خصوصا. فيعتقد هردر أن الشكل الأول لنظام الحكم ينبغي أن يكون دينيا لأن الدين يتوافق أكثر مع التركيبة الإنسانية في الحقب الأولى (Laurent, 2010) ففي طفولة الإنسانية كانت النظرة الدينية إلى العالم وإلى الطبيعة هي السائدة أما النظرة العقلية والمنطقية فلم تتشكل بعد. وخطأ التنويريين يتمثل في أنهم اعتبروا الدين وسيلة استعملها الحكام والملوك وعموما أناس مخادعون وماكرون من أجل استعباد الناس والسيطرة عليهم، في حين يعتبر هردر أنه من الطبيعي ومن العادي جدا أن يخضع البشر في هذه المرحلة لهؤلاء الملوك والشيوخ، ومن الطبيعي جدا اعلان الطاعة لهم لأنهم في طاعتهم هذه يشعرون بتدينهم، وكلما زادت طاعتهم وزاد ولائمهم لهؤلاء كلما زادت مشاعر التعبد والتدين لديهم وفي ذلك يقول:  «من الطبيعي أن يكون الشيخ والأب والملك ممثل الله على الأرض، وليس فقط من الطبيعي الخضوع للإرادة الأبوية والإذعان للأعراف القديمة والامتثال التام لممثل الإله الذي له ذكر العصور الخالية، إنما كل هذا يمتزج ليشكل شعورا دينيا بريئا» (Herder, 1964) كما يعتبر الدين النظام الأنسب للشعوب البدائية حيث يتساءل : «أليس من الطبيعي أن يكون اللاهوت أقدم نظام للحكم في بداياته عند كل الدول» (Herder, 1964) وكذلك يرى في الدين التصور الأول الذي استخدمه البشر لفهم وتفسير الطبيعة وظواهرها. ومصدر هذا الدين ليس الخوف كما اعتقد فلاسفة التنوير وإنما الإعجاب والانبهار بجمال الكون وروعته. ومنه فإن ما كان ينظر إليه هؤلاء الفلاسفة على أنها تخلف مثل الدين والاستبداد والسلطة والخوف هو في الحقيقة أشياء ايجابية لهذه المرحلة البدائية للإنسانية وبل هو ضرورية ومهمة لها ومن العادي جدا أن نرى البشر في طفولة البشرية يتصرفون بكل سذاجة وعفوية ويتقبلون بكل سلبية حقائق السلطة التي تحكمهم. (Herder, 1964)

إن الحكم الذي أطلقه فلاسفة التنوير على الثقافات والأمم الأخرى كان حكما من الخارج إي بالاستناد إلى معايير ثقافية غريبة عنها. لهذا اعتبر هردر أن الفهم الحقيقي للمراحل التاريخية لا ينبغي أن يتأسس من خلال نموذج معرفي يؤمن فقط بعالمية القيم والمعايير مثل ما فعل فلاسفة التنوير وإنما ينبغي فهم كل مرحلة تاريخية من خلال معاييرها وثقافتها وروح عصرها. وبذلك فقط يمكن أن نؤسس فهما حقيقيا ومتوازنا للتاريخ ومكوناته ومراحله.

إن المقاربة التنويرية عملت على إخضاع الأحداث التاريخية للتجريدات العقلية وهذه العقلانية لا تقدم فهما حقيقيا للتاريخ الواقعي المتعين الذي يتطلب نظرة محترمة للخصوصيات الثقافية والفكرية لكل مرحلة زمنية، لأن هذه الخصوصيات الثقافية تتعارض مع التعميمات العقلية والمنطقية، هذا لأن ن العقلانية العالمية لا تبالي بالخصوصيات التي تميز الثقافات والشعوب المختلفة ولا تحترمها بل تعتبرها صورا من صور التخلف والبدائية الفكرية، وأن ما يشكل مجد الانسانية وتقدمها ليس الدين أو ما يدور في فلكه وإنما العقل، وتبعا لذلك فإن قيمة أيّة حضارة أو ثقافة تتحدد بمدى تمثلها للقيم العقلية والتزامها بالنموذج الفكري العقلاني.

في نقد فكرة التقدم العقلي

لقد خط هردر لكتابه: فلسفة أخرى للتاريخ مهمة كبيرة تتمثل في الدفاع عن كل المراحل التاريخية وعن كل الثقافات المختلفة ضد هالة التكبر التي أصيب بها فلاسفة التنوير الذين ينظرون إلى عصرهم على أنه أفضل العصور، وثقافتهم على أنها أرقى الثقافات. وهذا بالتحديد ما تتضمنه فكرة التقدم العقلي في التاريخ. لأن هذا الطرح الذي يعتقد أن الانسانية في تقدم يعني ضمنيا أن المراحل التاريخية المعاصرة أفضل من المراحل التاريخية السابقة وأنها أكثر تطورا من السابقة، ولما كان أساس هذا التقدم ومعياره هو العقل فإن عصر التنوير هو أفضل العصور على الإطلاق لأنه الأكثر تجسيدا لقوى العقل مقارنة بالمراحل التاريخية السابقة. هذا التصور يحمل في نظر هردر نية خفية لإهانة الآخر، أي اهانة الثقافات والمراحل التاريخية الأخرى.

وكرد على فكرة التقدم العقلي في التاريخ افترض هردر أن المراحل التاريخية تقوم على التكامل فكل مرحلة تكمل أخرى ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عن مرحلة من المراحل فكلها مهمة في مسار تطور الانسانية. حيث يشبه مجرى التاريخ وتعاقب مراحله بجريان النهر الدائم التدفق وأحيانا أخرى يشبهه بالمراحل التي يمر بها الانسان. وهذه الاستمرارية ليست خالصة ونقية وإنما تحمل بعض آثار الأمم والحقب الأخرى. فالأمم والحضارات ليست منغلقة على ذاتها بل هي منفتحة على مثيلاتها إذ نجد أن كل الحضارات قد اعتمدت على بعضها البعض في عملية التشييد والبناء. ولقد صور لنا هردر العالم على أنه منفتح وفي تواصل وبل أنه مزيج من الثقافات والأفكار والفنون، وكل حضارة تكتسب وترث أشياء من التي سبقتها. حيث يقول هردر: «إن المصري لم يكن ليوجد دون الشرقي، واليوناني نجد أنه شيد حضارته بالاعتماد على هذا وذاك، والروماني اعتمد على الجميع. إنه يوجد تقدم متواصل وتطور متتابع»  (Herder, 1964) وفي موضع آخر يقول: «إن مزيج العقل الفينيقي والعقل المصري (...) هو الذي شكل مثالية العقل اليوناني وحريته» (Herder, 196) ونقرأ في موضع آخر: «إن المصري دون التعليم الذي تلقاه في الشرق من الصبي لمَاَ كان مصريا، ولَمَا كان اليوناني دون حماسة المصري، ونجد كراهيتهم بالتحديد هي العلامة على التطور والتقدم والدرجات المحققة» (Herder, 1964) ويضيف: «إن اليوناني يأخذ من المصري ما يجده مفيد له والروماني يأخذ من اليوناني ما هو مفيد له، وما إن يتشبع، فإنه يطرح الباقي أرضا ولا يرغب فيه»  (Herder, 1964) عندما نقرأ هذه المقاطع نكتشف أن هردر يرى أن ما يشكل الحضارات هو هذا الإرث الذي تكتسبه كل حضارة من الأخرى، وهذا المكتسب الجديد هو الذي يعمل على تشكيل هويتها وثقافتها وحضارتها، فما وصل اليونانيون إليه من تطور فكري و تحرر عقلي لم يكن نتيجة عبقريتهم أو ما يعرف عادة بالمعجزة اليونانية التي ترى في الشعب اليوناني شعبا فريدا من نوعه، بل هناك عوامل خارجية وفدت من الثقافات والأمم والحضارات الأخرى هي التي أسهمت في تكوين فكرهم وثقافتهم، إلا أن ما ورثه اليوناني من العقل المصري والعقل الفينيقي لم يأخذوه كما هو وإنما تغير جذريا نتيجة تأثير العوامل الطبيعية والسياسية والفكرية والأخلاقية التي يتميز بها المجتمع اليوناني وهذا التحول هو الذي يشكل ويمثل هويتهم وأصالتهم ويجعلهم شعبا متميزا عن الشعوب الأخرى. (Crépon, 2003)

هذا التصور الذي قدمه هردر لمسار التاريخ يختلف عن ذلك الذي قدمته فلسفة التنوير فهو تصور لا يخضع الشعوب والثقافات لسلم ترتيبي معين ولا يسعى للحكم عليها أو تقييمها. ولكي يوضح هردر فكرته في تقدم الإنسانية يستعين ببعض التشبيهات، فتارة يشبه هذا التقدم بالمراحل التي يمر بها الإنسان في حياته وتارة يستخدم مثال الشجرة، وتارة أخرى يستعين بمثال النباتات. (Giassi, 2010) فلو نظرنا المراحل التي يمر بها الإنسان من طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة نجدها كلها مراحل مهمة وضرورية ولا يمكن تجاهل أو اقصاء أي واحدة منها، فلكل واحدة منها قيمتها وأهميتها في حياة الإنسان. الشيء نفسه ينطبق على تاريخ الإنسانية فكل مرحلة من مراحلها لها أهميتها وقيمتها ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عن أي واحدة منها فكلها ضرورية ومهمة وكل واحدة تمهد للأخرى من أجل خلق التناغم والتناسق بين أجزاء هذا الكل. كما نجده يستعين بمثال الشجرة عندما يريد أن يتكلم عن الإنسانية ككل فالشجرة حتى تكون شجرة ينبغي أن يكون لها جذور وجذع وأغصان وأوراق وكلها مجتمعة تشكل الشجرة ولا ينبغي لهذه الأجراء وهي متفرقة أن تدعي أنها تمثل الشجرة لوحدها. كذلك الأمر بالنسبة للإنسانية فالشعوب والحضارات والثقافات تعبر عن أجزاء الإنسانية ولا ينبغي لثقافة ما أو شعب ما أو لحضارة ما أن تدعي أنها تمثل الإنسانية لوحدها بل كلها مجتمعة تسهم في تشكيل كيان الإنسانية.

بهذه الطريقة حاول هردر الرد على فكرة التقدم العقلي في التاريخ التي صاغها فلاسفة التنوير الذين يعتبرون أن عصرهم أفضل العصور وثقافتهم أفضل الثقافات وعقلهم أفضل العقول. وهذا في نظر هردر تقليل من أهمية الثقافات والحقب التاريخية الأخرى. لهذا وقف هردر ضد هذا الغرور الفكري الذي أصاب فلاسفة التنوير الفرنسي كطريقة لرد الاعتبار لكل المراحل التاريخية السابقة ولكل الأمم والشعوب والثقافات المختلفة وأن ما وصل إليه عصر التنوير لم يكن لو لا التراكم المعرفي الذي بدأ مع الحضارات القديمة. لهذا فكل مرحلة وكل ثقافة لها أهميتها في تاريخ الانسانية.

في نقد النزعة الكوسمبوليتانية

لقد دعا فلاسفة التنوير إلى بناء دولة عالمية كوسموبوليتانية تجمع كل أفراد النوع البشري. واعتبروا أن تصميم هذه الدولة يجب أن يكون وفقا لمعايير العقل لأنها المعايير الوحيدة التي يشترك فيها البشر والتي بإمكانها أن تجمعهم رغم اختلافهم. وتستند النزعة الكوسموبوليتانية إلى أفكار ديكارت التي تؤمن بوحدة الهوية الانسانية القائمة على العقل (Longo, 2005). وعبر عنها فيما بعد فولتير وغيرهم من الفلاسفة بفكرة «المواطن العالمي citoyen du monde» (Longo, 2005) هذه النزعة العالمية والكوسموبوليتانية التي دعا إليها فلاسفة التنوير هو ما حاول هردر الثورة عليه من خلال التأسيس لفكرة التعددية الثقافية.

وهذا المشروع التنويري الطامح إلى توحيد البشر قد يبدو من الناحية النظرية جميلا ورائعا ونبيلا إلا أنه من الناحية الواقعية هو غير ذلك. فالعقل التنويري هو عقل مجرد  لا يكترث بالوقائع، عقل متعالي ينظر إلى الأشياء نظرة فوقية وعامة. أفكار هذا المشروع مستمدة من العقل المتعالي وهذا العقل لا يكترث للخصائص التي تميز الشعوب، ما يهمه هو النوع البشري لا ثقافاته المختلفة، ما يهمه الكل وليس الجزء. لهذا اعترض هردر على هذا المشروع التنويري الذي رأى فيه خطرا على الإنسانية وتهديدا لها ولمكوناتها. لأن احترام هذا الكل (الإنسانية) والاهتمام به لا قيمة له إن أهينت واحتقرت وأهملت أجزاؤه المكونة له (الثقافات المختلفة)، بمعنى أن احترام الإنسانية يكون باحترام الشعوب والثقافات المكونة لها، وإلا ستبقى فكرة الانسانية فكرة مجردة وشعار خال من المعنى، كما أن احترام الأفراد يعني احترام ثقافتهم ودينهم ولغتهم لخ. وقد كتب هردر نصا صاغه بأسلوب تهكمي ينتقد فيه النزعة الكوسمبوليتانية التي دعا فيها فلاسفة التنوير الفرنسي الأمم والشعوب والثقافات المختلفة إلى التخلي عن الخصائص المحلية والذوبان في ثقافة عالمية موحدة مؤسسة على قيم عقلية مجردة حيث يقول: »طبائع ونمط حياة! أية حقبة يمكن أن تكون مأساوية مازالت تعيش فيها خصائص أمم: أية كراهية متبادلة، أي حقد للأجانب، أي استغراق في التفكير أية أحكام قديمة مسبقة، أي تعلق بالأرض التي ولدنا فيها وفيها سنتلاشى! طرق تفكير محلية! حيز أفكار ضيق، بربرية لا تنتهي! أما عندنا، فحمدا للرب! كل خصائص الأمم تم القضاء عليها! نحن متحابون كلنا، حتى أن الواحد فينا ليس بحاجة لأن يحب الآخرين؛ نحن نتردد على بعضنا، وكلنا متساوون فيما بيننا_ فنحن متأدبون و متحضرون وسعداء! صحيح أننا لا نملك وطنا، ولا نملك ما يتيح لنا أن نسميه «أهلنا» الذين نحيا لأجلهم، ولكن نحن أصدقاء الإنسانية ومواطنون عالميون. كل أمراء أوروبا يتكلمون الفرنسية ونحن في القريب العاجل سنغدوا مثلهم نتكلم الفرنسية، نتكلم الفرنسية! هنيئا لنا إذن! فالعصر الذهبي قد يبدأ من جديد، «العالم كله يملك لغة واحدة و الكلمات نفسها»! «لن يكون هناك سوى قطيع واحد وراع واحد»! يا خصائص الأمم، ماذا حل بكم؟  (Herder, 1964) « في هذا النص يتوجه هردر بالنقد إلى فلاسفة للتنوير الفرنسي في دعوتهم إلى تأسيس مجتمع انساني موحد يستند إلى قيم المواطنة العالمية. وحتى يتم تجسيد هذا المشروع ينبغي على الأمم والشعوب الأخرى أن تتخلى عن أنماط تفكيرها القديمة المبنية على الأسطورة والخرافة وبالمقابل تتبني التفكير المنطقي العقلي، وأن تتخلى عن السلوكات الهمجية والبربرية وتتعلم السلوكات المتخضرة والراقية، وأن تتخلى عن الخصائص المحلية التي تثير النعرات والكراهية بين الأمم لتتبني ثقافة عالمية واحدة تلغي التمايز بين الشعوب والأمم. ولكن هردر أدرك أن هذا المشروع تمت صياغته على مقاس الثقافة الفرنسية التي تريد أن تهيمن على العالم، وأدرك أن النزعة الشمولية التي دعا إليها فلاسفة التنوير الفرنسي هي عدوة الخصوصيات الفردية والأمم والثقافات المختلفة. وأن تصورهم للإنسانية تصور مجدر وبارد فالإنسانية ليست وعاءً فارغا أو مفهوما مجردا وإنما هي مجموع الشعوب والأمم والثقافات وجمال الانسانية وروعتها مستمد من تنوع ثقافاتها وشعوبها. لهذا اعتبر أن الدعوة إلى العالمية والوحدة كما صاغها فلاسفة التنوير الفرنسي هي دعوة تشوه جمال الانسانية ويقضي على تنوعها وثرائها وجمالها.

من فلسفة أخرى للتاريخ إلى التأسيس

    الفلسفي للتعددية الثقافية

إذا كانت أفكار هردر حول فلسفة التاريخ هي نتيجة صراعه الفكري مع فلاسفة عصره. فإن أفكاره حول التعددية الثقافية هي بدورها امتداد لهذا الصراع. فهردر وهو يرد على فلاسفة عصره حول ما ينبغي أن تكون عليه فلسفة التاريخ فإنه كان أيضا يؤسس لأفكاره حول التعددية الثقافية. لهذا فإنه لا يمكن الفصل بين فلسفة التاريخ عند هردر وأفكاره المؤسسة للتعددية الثقافية. ولما كان الأمر كذلك فإنه أيضا لا يمكن فصل تشكل الرؤية الهردرية (نسبة إلى هردر) حول التعددية الثقافية عن صراعه الفكري مع فلاسفة التنوير الذين يدافعون عن العالمية الأحادية، لأن التعددية الثقافية هي رد مباشر على فكرة هذه العالمية الداعية إلى تجاوز الاختلاف والتمايز بين الشعوب والأمم والثقافات.

وحتى يدافع هردر عن المراحل التاريخية ومختلف الأمم والثقافات ضد النزعة العالمية المجدرة افترض أن الإنسانية تتكون من أمم وثقافات وأن الانتماء الثقافي والأممي شيء جوهري في حياة الأفراد. (برلين، 2012) عكس الرؤية التنويرية التي تنطلق من فكرة وجود هوية انسانية واحدة وأنها غير متمايزة أساسها العقل.

 مفاد فكرة الانتماء الثقافي والأممي التي طرحها هردر كتجاوز لفكرة الهوية الإنسانية الواحدة أن البشر ينتمون دائما إلى جماعة ما، إلى ثقافة ما، ويتكلمون لغة معينة وهذا الانتماء هو الذي يحدد كينونتهم ويجعلهم يتميزون عن الجماعات الأخرى، فكل أمة تملك خصوصيات ثقافية ولغوية واجتماعية ودينية تعبر عن هويتها وتميزها عن غيرها. وهذه الخصوصيات متجذرة في هوية الأفراد الذين ينتمون إليها بحيث لا يمكن الغاءها أو تجاوزها. ففي مقابل فكرة الفرد المجدر (العقلاني) اختار هردر الانطلاق من فكرة الأمة لأن الأمة تحمل في طياتها اعتراف بالخصائص الجزئية للشعوب والثقافات في حين أن فلاسفة التنوير ينطلقون من فكرة الفرد المجرد التي تعتبر أن الهوية الأساسية للإنسان هي العقل أما الخصوصيات الثقافية والدينية يمكن تجاوزها من أجل قيم عالمية موحدة مستمدة من العقل وحده.

ويعتبر ايزايا برلين أن هردر هو أول من أسس لتوجه فكري يدافع عن مشروعية التعددية الثقافية ومنه القومية الثقافية وفي ذلك يقول: «من الممكن أن يحدد تاريخ بروزها كدعوة مترابطة في الثلث الأخير من الثامن عشر في ألمانيا، خصوصا في تصورات روح الشعب (Volksgeist) والروح القومية (Nationalgeist)، في كتابات الشاعر والفيلسوف ذي الـتأثير العميق يوهان غوتفريد هيردر» (برلين،  2016). حيث بدأت تهيمن على:» فِكر هيردر قناعته بأن من الاحتياجات الأساسية للإنسان، الأولوية للطعام أو للتناسل أو للاتصال، هناك حاجة الانتماء إلى الجماعة». (برلين، 2016) فالانتماء الثقافي والأممي شيء جوهري في الإنسان، وهوية الفرد تتشكل من انتمائه.

قبل الشروع في تحليل فكرة هردر حول الانتماء الثقافي نود أولا أن نفهم السبب الحقيقي الذي دفع هردر إلى الـتأكيد على فكرة الانتماء الثقافي والأممي ومنه التأسيس الفلسفي للتعددية الثقافية في مقابل النزعة الكوسمبوليتانية الفرنسية؟

من أجل فهم ذلك ينبغي أن نعود إلى التاريخ. فتاريخيا كانت فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر مهيمنة سياسيا وعسكريا وثقافيا على أوروبا، حيث كانت فرنسا بلدا قويا عسكريا، ومتقدم فكريا وثقافيا، وكانت عاصمتها باريس تمثل مركز اشعاع ثقافي وفكري عالمي، حيث كانت الدول الأوروبية تعتبر فرنسا نموذجا فكريا جديرا بالاقتداء، هذه الهيمنة السياسية والفكرية انتقلت إلى اللغة الفرنسية التي أصبحت لغة شائعة التداول في الدول الأوروبية مثل اسبانيا وايطاليا وألمانيا وهولندا، وكان ينظر إليها على أنها لغة الفكر والعلم والثقافة حيث كانت تلعب آنذاك نفس الدور الذي كانت تلعبه اللغة اللاتينية في العصور الوسطى. وكان ملك بروسيا آنذاك فريدريك الثاني (Frédéric II)  (1712-1786) مهووسا باللغة الفرنسية وأدبها الخالد وكان يعتقد «أن اللغة الألمانية لغة متخلفة مقارنة بالفرنسية وأنها عاجزة عن ابداع أعمال أدبية خالدة مثل ما فعل الفرنسيون، وإذا أرادت أن تبلغ ذلك عليها بمحاكاة اللغة الفرنسية، وكان شائعا أن مكانة اللغة الفرنسية وأهميتها يعود إلى أنها لغة واضحة، وهذا الوضوح مستمد من التفكير العقلي المنطقي الذي كان يمارسه الفلاسفة الفرنسيون، وبذلك ساد الاعتقاد أن اللغة الفرنسية هي لغة العقل والثقافة والتقدم والتحضر. (Kulundzic, 2018) 

في هذا الوضع التاريخي والفكري والسياسي كان يعيش هردر؛ وضع يشهد على انتصار فرنسا وانهزام ألمانيا. لم يستطع هردر أن يتقبل هذه الروح الانهزامية التي سادت أوروبا وبالخصوص بلده المانيا إزاء لغة فرنسا وثقافها. لهذا جند نفسه لمهمة التأسيس الفكري للتعددية الثقافية والدفاع عن الخصوصيات اللغوية والثقافية في مقابل الهيمنة الفرنسية. حيث طرح فكرة مهمة وهي أن لكل أمة ولكل شعب أهميته وأصالته في تاريخ الإنسانية وهذه الأهمية والأصالة يعبر عنها بـ»روح الشعب». وروح الشعوب تتجلى في نمط تدينها وأشعارها الشعبية وأساطيرها البدائية وقصصها القديمة وكذا عاداتها وتقاليدها ولغاتها المحكية.

وكان هردر يرى أن الثقافة الحقيقية لا تتمثل في المعرفة العقلية والأفكار الفلسفية المجردة وإنما أيضا في تلك التي نجدها في روح الشعوب أي في التراث الشعبي والقصص والأشعار والأساطير القديمة. (Kulundzic، 2018) وهذه الروح هي التي تعبر عن عبقرية الشعوب وأصالتها. وبذلك فإن الانسانية الحقيقية عند هردر ليست تلك التي يتصورها فلاسفة التنوير الفرنسي على أنها انسانية العقل والقيم العقلية وإنما الانسانية الواقعية التي تتجلى في روح الشعوب، أي في الثقافات واللغات والعادات والتقاليد المختلفة التي تكشف عن الحياة الحقيقية والواقعية للشعوب.

هذا الاهتمام بالثقافات الشعبية ومكوناتها والاشادة بها وبأصالتها هي طريقة لإيجاد بديل عن النموذج الثقافي الفرنسي الذي يعتبر أن الثقافة الحقيقية هي تلك المرتبطة بالعقل أما ما عداها فهي مجرد أشكال بدائية لا ترقى إلى الفكر الحقيقي. هذا البديل الذي قدمه هردر والذي يدعو إلى العودة إلى التراث الشعبي واشعاره واحيائه والترويج له هو طريقة للتخلص من هيمنة الثقافة الكلاسيكية العقلية التي تمثلها فرنسا آنذاك.

لقد أراد هردر أن يلفت أنظار المهووسين بالثقافة الفرنسية ولغتها الدخيلة إلى أن هناك نموذج ثقافي آخر محلي ومحايث لكل أمة ولكل شعب، وأن عبقرية كل أمة وأصالتها موجود في ثقافتها المحلية. ومنه فإن الفكر الحقيقي والأدب الخالد لن يكون كذلك إلا من خلال الاستثمار والانطلاق من الثقافة المحلية. وتبعا لذلك إذا أرادت ألمانيا (وهذا ينطبق على البلدان الأخرى) أن تنتج فكرا أصيلا وأدبا راقيا وخالدا مثل ما فعلت فرنسا فليس من خلال تقليد الفرنسيين وإنما من خلال العودة إلى روح الشعب الألماني؛ إلى العبقرية المحلية والاستثمار فيها (Kulundzic, 2018).

بهذا الطرح حاول هردر أن يتجاوز النموذج الثقافي الفرنسي العقلاني الأحادي الذي لا يبالي بروح الشعوب وما يمثل أصالتها وعبرقريتها. وهذا البديل الذي قدمه هو بالتحديد ما يشكل أصالته وابداعه الفكري. وبذلك يعد هردر الأول الذي أحدث تحولا كبيرا في مفهوم الثقافة في عصر التنوير فبعدما كانت الثقافة تعني عند الفرنسيين كل ما له علاقة بالفكر والعقل، أصبحت تعني «روح الشعب» أي كل ما يحيل إلى العادات والتقاليد والمعتقدات والأساطير ونمط العيش والسلوك، وبعدما كانت الثقافة واحدة وتستعمل بصيغة المفرد أصبحت الثقافة تستخدم بصيغة الجمع: الثقافات، فلا توجد ثقافة عالمية واحدة وإنما هناك ثقافات متعددة بتعدد الأمم والشعوب (Finkielkraut, 1987).

في طريقة فهم الثقافات المختلفة

بعدما قدم هردر تصورا آخر لمفهوم الثقافة مختلف عن التصور التنويري الأحادي والمجرد، وبعدما بيّن أنه لا توجد ثقافة واحدة كما يزعم فلاسفة التنوير وإنما هناك ثقافات متعددة ومختلفة باختلاف الأمم والشعوب. ينقلنا بعد ذلك إلى طريقة أخرى لدراسة وفهم التاريخ وكل ما يتضمنه من شعوب وثقافات ومراحل تاريخية مختلفة عن النموذج العقلاني التنويري. ومن أجل بلوغ ذلك دعا أولا إلى تجاوز العقل المتعالي الذي اعتمد عليه فلاسفة التنوير في فهم التاريخ والاستثمار في العقل التاريخي المحايث، لأن العقل التنويري المتعالي لا يفهم روح الشعوب وثقافاتها، ولا يفهم ما معنى أن يكون الفرد متدينا وعاطفيا ولا يفهم ما معنى أن يكون منتميا إلى ثقافة، إلى لغة، إلى وطن ... وهذا لأنه لا يبالي إلا بما يتوافق مع القيم العقلية، وبالمقابل نجد أن العقل التاريخي عقل لا يتعالى على التاريخ ومكوناته بل هو محايث له وهذه المحايثة تمنحه القدرة على القدرة على استيعاب الاختلاف الثقافي واحترامه لأنه يعتبر أن لكل مرحلة تاريخية معاييرها ولكل ثقافة قيمها الخاصة بها. (Larmore, 1993) والعقل الذي يراعي هذا الاختلاف ليس العقل التنويري المجرد وإنما العقل التاريخي الواقعي الذي بإمكانه أن يفهم ويبرر الاختلاف الثقافي والانتماءات القومية والمعتقدات الدينية. فالعقل التاريخي لا ينظر إلى الوقائع والمكونات التاريخية نظرة فوقية خارجية وإنما هو عقل محايث للتاريخ ومتعاطف مع مكوناته ووقائعه، العقل التنويري هو عقل يمتلك صورة قبلية حول ما ينبغي أن تكون عليه الاشياء  فما توافق مع معاييره يقبلها وما تعارض معها يرفضها ويزدريها وينتقدها، في حين العقل التاريخي هو عقل يتماهى مع الوقائع ويبحث عن المنطق الذي يبررها.  

لهذا يعتقد هردر أنه إذا أردنا فهم ثقافة ما أو ما يسميه بـ»روح الشعب» وما تملكه هذه الروح (الثقافة) من خصوصيات علينا أن نتعاطف معها (Giassi, 2010) حيث يقول هردر: «الطبيعة الكلية للروح التي تهيمن على كل شيء وتكيف حسب ماهيتها كل الميولات والملكات الروحية الأخرى وبل تتعداها إلى التصرفات الأكثر جمودا، وحتى يكون بمقدورك الشعور بها لا ينبغي بناء إجابتك من خلال رأي واحد بل حاول أن تتوغل في هذا العصر، في هذه الرقعة الجغرافية وهذا التاريخ بأكمله، توغل داخل كل هذه الأشياء وحاول أن تحس بها بنفسك. وهي الطريقة الوحيدة التي بإمكانها أن تقودك إلى فهم هذه الكلمة(الروح) (Herder, 1964) «إن أفضل طريقة لفهم الروح التي تسري في الأمم والشعوب الأخرى أو فهم الروح السائدة في عصر ما هي أن نتعاطف معها. والتعاطف هنا يعني الغوص في تركيبة هذه الأمم والإنصات إليها عن قرب، أن نعيش وسطها، أن نتجرد من أحكامنا المسبقة حتى نستطيع فهمها وليس أن نحكم عليها من الخارج بأن نطلق أحكاما معممة وكلية في حين توجد اختلافات وخصوصيات تنفلت من هذه الأحكام العامة.

إن العقل التاريخي يؤمن أن لكل جماعة تملك خصوصيات تميزها عن غيرها وتعبر عن هويتها فالجزائري مثلا نجده مختلف عن الصيني في طريقة تفكيره وعمله ورقصه والقوانين التي تحكمه والموسيقى التي يفضلها والطعام الذي يأكله واللباس الذي يرتديه كل هذه الأفعال والسلوكات والقيم تجعله يتميز عن الصيني ومنه فإنه لا يمكن فهم الجزائري وما ينتجه من فن وموسيقى وأخلاق وقوانين دون العودة إلى هذه الخصوصيات لأنها هي التي وجهت فنونه وأخلاقه وقوانينه لتكون بهذه الصورة أو تلك. ومنه فإن فهم الفرد الجزائري لا يستقيم إن أهملنا تاريخه وثقافاته ولغاته، وأي إهمال أو إقصاء لأي مكون من مكوناته الثقافية والتاريخية واللغوية سيبقى فهمنا له ناقصا.

حسب هردر فإنه من أجل فهم جماعة ما أو أمة ما في أي حقبة كانت يجب أن نجهد مخيلاتنا من أجل الولوج إلى مشاعر هؤلاء البشر البعيدين عنا في الزمان والمكان ومختلفين عنا في الدين والثقافة. وإذا استطعنا عن طريق مجهود المخيلة أن نُنْشِأ من جديد، داخل ذواتنا، هذا النمط من الحياة الذي عاشه ويعيشه هؤلاء البشر وكيف كانت طبيعتهم ومناخهم وشوارعهم وقيمهم استطعنا بذلك أن نفهمهم. هذا يعني أننا إذا أردنا فهم الفلسفة اليونانية علينا أن نفهم أولاً الفن اليوناني، أن نفهم التاريخ والجغرافيا اليونانية وتركيبتهم الاجتماعية ونظمهم السياسية. وإلخ وهي الطريقة الوحيدة التي ينبغي إتباعها إذا أردنا أن نكون موضوعيين في أحكامنا عنها (برلين، 2012) وليس وفق المنهج الذي اتبعه فلاسفة التنوير الذين طبقوا قراءة شمولية كلية للثقافات المختلفة معتقدين أن الانسان كائن عقلاني وهويته واحدة يشترك فيها جميع البشر لا تتغير بتغير المكان والزمان، وتصوروا أن هناك معايير وقوالب ثابتة يمكن تطبيقها على الجميع في حين أنها هذه النظرة الكلية والمجردة لا تستطيع أن تستوعب الاختلافات وخصوصيات والوقائع الجزئية التي تزخر بها الأمم والثقافات.

الثقافات متعددة لكنها متساوية

لم يكتف هردر بالقول أن الثقافات متعددة وضرورة فهمها وفق قيمها ومعاييرها الخاصة وإنما أيضا أكد على أنها متساوية فيما بينها. إن عملية المقارنة تعني أن هناك سلما للقيم إليه نعود في عملية المقارنة ووفقا له نصدر أحكامنا من أجل القول أن هذا الشعب أو ذاك أقل أو أكثر تقدما أو سعادة من الأخر، أو أن ثقافة ما أفضل من الأخرى أو أن حقبة ما أو عصرا ما أكثر تطورا وتقدما من الذي سبقه أو تلاه. وهذا بالتحديد ما قامت عليه فكرة التقدم العقلي التي تصور أن التاريخ يسير نحو التقدم العقلي وأن هذا التقدم هو أساس سعادة الانسان ورقيه، وأنه الانسانية تسير من التخلف والهمجية نحو التطور التحضر. وحتى لا يقع هردر في مأزق المقارنة السلبية التي تسيء إلى الآخر، عمل على تأسيس رؤية فلسفية بحيث تكون فيها مختلف الأمم والحقب والثقافات على شكل سلسلة متناسقة ومتناغمة دون أن تكون ولو ضمنيا محاولة لتقييمها أو الحكم عليها. وهذه الرؤية في مقابل الرؤية التي تبناها فلاسفة التنوير الذين يعتبرون في التعاقب التاريخي صورة لتطور تدريجي نحو الأفضل. ولما جعل هؤلاء الفلاسفة معيار هذا التقدم هو العقل، ولما كانوا يعتبرون أن عصرهم هو عصر العقل بامتياز فإنه بدا لهم عصرهم على أنه أفضل العصور وأكثرها تقدما وتحضرا. وبالمقابل فإن الحقب الأخرى بدت لهم متخلفة وهمجية لأنها ببساطة أقل تمثلا للقيم العقلانية. لقد أدرك هردر أن فلاسفة التنوير بمقاربتهم هذه يحكمون على الماضي بمعايير الحاضر، وعلى أذواق الآخرين من خلال أذواقهم، ويحكمون على الإنسان البدائي والتقليدي من خلال الإنسان الحديث، وهنا بالتحديد يكمن الخطأ المنهجي الذي وقع فيه فلاسفة التنوير لما افترضوا سلما للمقارنة يتماشى فقط مع أذواقهم وروح عصرهم و رؤيتهم للعالم. (Herder, 1964)

إن فلاسفة التنوير افترضوا وجود سلم للمقارنة صالح لاستقراء كل تاريخ البشري. وعليه فإن تقييم هذا المسار التاريخي والحكم عليه يكون من خلال المعايير الموضوعة سلفا. ولما كان هؤلاء الفلاسفة يعتبرون عصرهم أفضل العصور وأكثرها تطورا وتقدما فإن الحكم على الحقب الأخرى يكون انطلاقا مما توصل إليه عصرهم متجاهلين المسافة الزمنية وبالخصوص الفكرية التي تفصلهم عن الماضي وطرق تفكيره. (Herder, 1964) فصحيح أن العقل الإنساني في عصر التنوير قد قطع أشواطا كبيرة من حيث مناهج الدراسة والتفكير العقلي والمنطقي، كما شهد انتشارا رهيبا للمعارف فكان عصرهم بمثابة انعطافة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، إلا أن هذا التطور والتقدم، في نظر هردر، لا يشرع إلقاء اللوم على الحقب الأخرى لأنها لم تبلغ هذا المقام من التطور والتقدم.

وحتى يوضح هردر فكرته يشبه مطالبة عصر التنوير المراحل التاريخية السابقة بالتقدم الذي بلغته والتفكير المنطقي والعقلي الذي تؤمنه به كمطالبة الطفل الصغير بنفس الكفاءات التي يمتلكها الشيخ الحكيم. كذلك الأمر بالنسبة للحقب التاريخية القديمة فلا ينبغي انتقادها على عدم امتلاكها آليات التحليل العقلي والمنطقي الذي بلغه عصر التنوير، وقد عبر عن ذلك هردر بقوله: «إن الأمر الأكثر ازدراء في العالم أن يكون شيخ بعمر ثلاث سنوات» (Herder, 1964) بمعنى أنه من غير المعقول أن نطالب صبيا صغيرا بعمر ثلاثة سنين تلك الحكمة التي يمتلكها الشيخ الكبير وهذا إشارة إلى فلاسفة عصر التنوير الذين يطالبون الشعوب البدائية والعصور الوسطى أن تكون بمستوى التطور العقلي والعلمي الذي بلغه عصرهم وهذا في حد ذاته يتنافى مع التفكير العقلي والواقعي.       

لقد توصل هردر إلى أن المقاربة العقلية للتاريخ عاجزة عن فهم الحقب والأمم الأخرى انطلاقا من قيمها ومعاييرها والسياقات التي تكونت فيها، كما أنه تنبه إلى أنها مقاربة قائمة على مبدأ الإساءة وليس على مبدأ الفهم لأن المقارنة والتفضيل بين نمطين من التفكير ينتميان إلى مرحلتين زمنيتين مختلفين دون مراعات الاختلاف الموجود بينهما هو خطأ منهجي في عملية الفهم، كما أنه أدرك أن النزعة التقدمية التنويرية التي تفضل وتعلي من قيمة الحاضر على الماضي هو اجحاف في حق الماضي، لأنه لولا التراكم المعرفي لما بلغ عصر التنوير ذلك التقدم المعرفي الذي يتبجح به فلاسفته. لهذا دعا هردر إلى تجاوز المقاربة العقلية للتاريخ وبالمقابل تبني مقاربة تؤمن أن مسار التاريخ هو مسار متكامل ومتناغم وأن الاعتراف بمبدأ المساواة هو الوحيد الذي يضمن الاحترام بين الثقافات والأمم والمراحل التاريخية. 

وحتى يدافع هردر عن أطروحته يشبه الاستمرارية بين المراحل التاريخية التي تمر بها الانسانية وأهمية مراحها وأصالتها بالمراحل التي يمر بها الفرد الإنساني، فكما أنه لا يمكن الفصل بين طفولة وشباب وشيخوخة الكائن البشري، والأهمية والخصوصية التي تتميز وتتمتع بها كل مرحلة، فكذلك الأمر بالنسبة لمراحل الإنسانية فكل مرحلة وكل حضارة وكل ثقافة تمثل حلقة مهمة وأصيلة ومكملة في هذا الكل الذي هو الإنسانية. (Crépon, 2003)  ولما كان الأمر كذلك فإنه لا يحق لأية ثقافة أن تدعي أنها تجسد لوحدها كل الإنسانية. من هذا المنطلق ينتقد هردر عصر التنوير الذي شن هجوما شرسا على العصور السابقة حين كان الفكر الخرافي والأسطوري والديني سائدا، معتقدا أن حياته بدأت فقط مع سن الرشد، أي مع مرحلة التفكير العقلي والمنطقي، ونسي مراحل اللعب وأيام المدرسة والاكتشافات الأولى. لقد أصيب عصر التنوير بفقدان الذاكرة وما كان لهردر إلا أن ذكره أن الإنسانية قبل أن تصبح راشدة فكريا مرت بمراحل الطفولة الفكرية، وكل المراحل التي مرت بها الانسانية لها قيمتها وأهميتها (Crépon, 2003)

إن الأفكار التي طرحها هردر حول روح الأمم وعبقريتها، واختلاف الثقافات ونسبيتها، والـتأكيد على المساواة بينها، وضرورة فهم كل ثقافة، كل أمة وكل حقبة تاريخية وفق قيمها ومعاييرها، وبالمقابل نقد المقاربة العقلانية للتاريخ ورفض العالمية المجدرة. فإن هذه الأفكار الثورية أسست لفلسفة أخرى للتاريخ، هذه الفلسفة الأخرى للتاريخ ابدعت في النهاية تصورا جديدا لمفهوم الثقافة، ومنحت الشرعية الفكرية للتأسيس والدفاع عن التعددية الثقافية.

خاتمـة

في هذا المقال حاولنا أن نبين كيف أدت أفكار هردر حول فلسفة التاريخ إلى التأسيس الفكري للتعددية الثقافية. وقد رأينا أن كتاباته أخذت طابعا سجاليا مع فلاسفة عصره وبالخصوص الفرنسيين منهم. حيث لم يكن هردر في البداية ينظر للتعددية الثقافية في ذاتها وإنما هي نتيجة منطقية لنقده للأسس التي قامت عليها فلسفة التاريخ كما صاغها فلاسفة التنوير والمتمثلة في: العقلانية، العالمية وفكرة التقدم. 

لم تقد أفكار هردر حول فلسفة التاريخ إلى التأسيس الفكري للتعددية الثقافية وحسب وإنما أيضا، كما أشار إلى ذلك زئيف ستيرنهال إلى التأسيس، مع مفكرين آخرين، لحداثة جديدة في مقابل الحداثة التنويرية:» قائمة على النزعة الجماعية، والنظرة التاريخية، والقومية، حداثة يكون فيها الفرد محدد بأصوله الإثنية، ومن خلال التاريخ، واللغة والثقافة» في مقابل حداثة تقوم على القيم العالمية، والاستقلالية الذاتية للفرد. ويعتبر أن الصراع بين الحداثتين وحول ما ينبغي أن تكون عليه الحداثة الحقة هو الذي طبع ويطبع الفضاء الفكري منذ عصر التنوير.

إن مسألة التعددية الثقافية التي طرحها هردر في عصر التنوير عرفت تنظيرا كبيرا من قبل العديد من الفلاسفة المعاصرين حيث أصبحت التنظيرات المتعلقة بالاختلاف الثقافي والعيش المشترك وحق الاختلاف في زمن العولمة والهجرة وانفجار القوميات الاثنية واللغوية وتطلعاتها نحو التحرر والاستقلال من بين الموضوعات الفكرية الأكثر طرحا في العالم المعاصر.

 ويبدو أن الرهان في المجتمعات المعاصرة هو كيف يمكن تحقيق التصالح بين أسس الفلسفة التنويرية الداعية إلى العالمية التي تقوم على النزعة العقلانية والفلسفة المعادية لها والتي تدعو إلى الاعتراف بالثقافات المختلفة وحقها في التعبير عن ذاتها وفق قيمها المحلية الخاصة بها؟

المراجع

ايزايا برلين. (2012). جذور الرومانتيكية. (سعود السويدا، المترجمون) بيروت: جداول.

ايزايا برلين. (2016). نسيج الانسان الفاسد. (سمية فلوعبود، المترجمون) بيروت: دار الساقي.

ويزرمان وآخرون. (1986). تاريخ الدياليكتيك: الفلسفة الكلاسيكية الالمانية. (نزار عيون السود، المترجمون) : دار دمشق.

Cassirer, A. (1996). la philosophie des lumières. (P. Quillet, Trad.) Fayard.

Crépon, M. (2003). mémoires dEurope (note sur une autre philosophie de Herder). (h. R. Org, Éd.) Revue germanique internationale(20), pp. 145-152.

Finkielkraut, A. (1987). la défaite de la pensée. Paris: Gallimard.

Giassi, L. (2010). la philosophie de lhistoire selon Herder en 1774. (p. éditions, Éd.)

Herder. (1964). une autre philosophie de lhistoire. (M. Rouché, Trad.) Paris: Aubier.

Kulundzic, N. (2018, 12 20). Le rôle de la littérature dans lédification dune culture nationale. (U. P. Paol, Éd.) France.

Larmore, C. (1993). modernité et morale (éd. 1). Paris: presse universitaires de France.

Laurent, G. (2010). , la philosophie de lhistoire selon Herder en 1774. philopsis.

Longo, M. (2005). Voix des peuples et idée de nation chez Herder. La Revue Historique, 1(2004), pp. 19-34.

Raulet, G. (1995). Aufkarung:les lumières allemandes. Paris: Flammarion.

@pour_citer_ce_document

ياسين كرام, «من فلسفة التاريخ إلى فلسفة الثقافة: بحث في الـتأسيس الفلسفي للتعددية الثقافية عند هردر »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 224-237,
Date Publication Sur Papier : 2023-06-26,
Date Pulication Electronique : 2023-06-26,
mis a jour le : 26/06/2023,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=9440.