استنطاق خطاب النثر الصّــوفي في نماذج مختارة من الحكم العطائية- مقاربة أسلوبية – Interrogation of the discourse of Sufi Prose in selected models of the Al- Hikam al-Ata’iyyaInterrogation du discours de la prose soufie dans des modèles sélectionnés d’Alhikam Al-Ata’iyya
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 vol 20-2023

استنطاق خطاب النثر الصّــوفي في نماذج مختارة من الحكم العطائية- مقاربة أسلوبية –
Interrogation du discours de la prose soufie dans des modèles sélectionnés d’Alhikam Al-Ata’iyya
Interrogation of the discourse of Sufi Prose in selected models of the Al- Hikam al-Ata’iyya
ص ص 114-129
تاريخ الاستلام 2022-05-06 تاريخ القبول 26-09-2023

فاطيمة بن أحمد / عبد الرحمان بغداد
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يستنطق هذا البحث الخطاب الصّوفي النّثري في الحكم العطائية، بالوقوف -في البداية- عند حدود المفهوم الاشتقاقي والاصطلاحي للتّصوّف على لسان أهله، ثمّ يتتبّع تطوّر حركته الفكرية وكيف نضج إلى أن ترسّخ علما له أصوله وقواعده وآدابه قارع وجادل بها علم الفقه وتعالق مع الفلسفة. ثم اختص البحث بعد ذلك بدراسة نماذج نثرية من حكم ابن عطاء الله السكندري عبر مقاربة أسلوبية لاستجلاء المعاني الصوفية المضمرة فيها، وما تفردتْ به من مميزات لغوية وبلاغية

Cette recherche interroge le discours soufi en prose dans al-Hikam al-Ata’iyya, en se tenant, dans un premier temps, aux limites du concept étymologique et idiomatique du soufisme, Puis il retrace le développement de son mouvement intellectuel jusqu’à ce qu’il prenne conscience de ses principes, ses règles et son étiquette qu’il a soutenues dans la science de la jurisprudence et s’y est entrelacés avec la philosophie. Puis s’est concentré sur l’étude des modèles de prose de la sagesse d’Ibn Ata’ Allah al-Sakandari à travers une approche stylistique pour élucider les significations implicites du soufisme en eux, et les caractéristiques linguistiques et rhétoriques qui lui étaient propres  

This research interrogates the Sufi prose discourse in al-Hikam al-Ata’iyya, by standing, initially, at the limitations of the etymological and idiomatic concept of Sufism according to its people, then its traces the development of his intellectual movement until it became a science with its principles, rules, and etiquette that he argued within the science of jurisprudence and intertwined with philosophy. Then focused on studying prose models from the wisdom of Ibn Ata’ Allah al-Sakandari through a stylistic approach to elucidate the Sufism meanings implicit in them, and the linguistic and rhetorical characteristics that were unique to it.

Quelques mots à propos de :  فاطيمة بن أحمد

[1]Fatima Benahmed    مخير الدراسات الأدبية والنقدية وأعلامها في المغرب العربي المركز الجامعي مغنية، الجزائر fatimaf13000@gmail.com
[1]المؤلفالمراسل

Quelques mots à propos de :  عبد الرحمان بغداد

Dr. Abderrahmane Beghdad مخير الدراسات الأدبية والنقدية وأعلامها في المغرب العربي المركز الجامعي مغنية، الجزائر abderrahmane-beghdad@hotmail.com

مقدمة

تعدّ التجربة الصوفية إحدى أبرز التجارب الإشكالية في التراث الإسلامي عـموما والعربي على وجه الخصوص، ولعلّها الأكثر إثـارة لفضول الباحثين في مجال الدراسات الإسلامية والأدبيـة وحتى الفلسفيـة، إذ خلّفت الحركة الصّوفية - عبر العصور التي مرّت بها- أثرا فكريا وفلسفيـا وأدبيّا هائلا، وجمعت بين الجانبين؛ الروحي والفنّي، فجاء التراث الصوفي زاخرا بالمؤلّفات التي عبّر بها المتصوّفة عن تجاربهم عبر أشكال الخطاب الشعري والنثري، فإذا كان الخطاب الشعري الصّوفي يأخذ بألباب القرّاء، فإنّ ما كتبه الصّوفية منثورا لابد وأنه لا يقلّ شأنا ولا قيمة فنّية عن أشعارهم.

وهذا ما جعلنا نبحث فيما خلّفته التجربة الصّوفية من أثر أدبيّ نثري لنتعرّف على فنون النثر الصّوفي ومضامينها، ثمّ نتوقّف عند ابن عطاء الله السكندري في نصوص حِكَمه، في محاولة منا للتعرّف على بعض أشكاله التعبيرية وخصائصه الفتية. خاصّة وأنّ الحكم العطائية قد استوقفت علماء كبار لشرحها وبيان المعاني الصّوفية الكامنة فيها، حيث شرحها عبد المجيد الشرنوبي ومحمد رمضان سعيد البوطي وسعيد حوى، لكنها لم تحظ –على حدّ علمنا-  بدراسة فنية لبيان جمالياتها الأسلوبية والبلاغية. وقد استوقفتـنا إشكالية هذا البحث عند مجموعة من التساؤلات أهمها:

 ماهية التّصوف؟

 كيف نشأت وتطوّرت حركة التّصوف؟ وما هي مصـادرها؟

ما هي ألوان الفنون النّثرية التي خلّفتها التجربة الصوفية؟

ما هي الخصائص الفنّية التي يتّسم بها الخطاب الصّوفي النّثري عند ابن عطاء الله السكندري؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات اقتضت منّا هذه الدّراسة جانبين؛ أوّلهما نظري نحدد فيه ماهية التّصوف وكيفية تطوره ومصادره، ونعرّف النّثر الصّوفي وأشكاله التعبيرية. وآخر تطبيقي يقارب أسلوبيا نصوصا من الحكم العطائية لاستجلاء ما تكتنزه من قيم دينية ومعان روحية، وكذا الكشف عن الخيارات الأسلوبية والصور البلاغية التي تتولّد عبرها قيمها الفنّية.

ماهية التصوف

في اشتقاق الاسم

إنّ أوّل ما يصادف الباحث في الشأن الصّوفي هو إشكالية التسمية التي تعدّدت فيها الأقوال، وكثرت حوله احتمالات الاشتقاق والتوليد. وقد عرّف أبو القاسم القشيري التّصوف في رسالته قائلا: «الصفاء محمود بكل لسان ضدّه الكدورة ... هذه التّسمية غلبت على هذه الطّائفة، فيُقال: «رجل صوفي»، وللجماعة «صوفيـّة»، ومن يتوصّل إلى ذلك يقال له «متصوّف»، وللجماعة «المتصوّفة». وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق. والأظهر أنه كالقلب.» (القشيري ع.، 1987)

ويفصل القشيري الاشتقاقات الواردة في حقيقة كلمة (صوفيّ) فيقول: «فأمّا قول من قال: إنّه من الصّوف، ولهذا يُقال تصوّف إذا لبس الصّوف كما يقال تقمّص إذا لبس القميص فذلك وجه لكنّ القوم لم يختصّوا بلبس الصّوف. ومن قال إنّهم منسوبون إلى صُفّة مسجد رسول الله، فالنّسبة إلى الصُّفة لا تجيء على نحو الصّوفي. ومن قال إنه من الصّفاء، فاشتقاق الصّوفي من الصّفاء بعيد في مقتضى اللّغة. وقول من قال إنّه مشتق من الصفّ فكأنّهم في الصّف الأوّل بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى فالمعنى صحيح لكنّ اللّغة لا تقتضي هذه النّسبة إلى الصّف» (القشيري ع.، 1987)، فالقشيري دحض كل تلك الفرضيات لأنّها ليست صحيحة لغويّا، مستثنيا النسبة إلى الصّوف لكنه استبعدها أيضا لأن القوم في نظره لم يختصّوا بلبس الصّوف، وقد رجّح الكفّة الحاملة للتصوّف على أساس الصّفاء، فهو يحبّ أن ينسب مذهبه إلى الصّفاء شأنه في ذلك شأن باقي المتصوّفة فكيف به وهو الملقّب بإمامهم.

وجاء في أسرار البلاغة للزّمخشري أنّ الصوفي منسوب إلى صوفة حيث كان آل صوفة يجيزون الحاج من عرفات أي يَفيضون بهم، ويقال لهم آل صوفان وآل صفوان، وكانوا يخدمون الكعبة ويتنسّكون... وممّا رواه ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: إنّما سميّ الغوث بن صوفة لأنه ما كان يعيش لأمّه ولد فنذرت لئن عاش لتعلّقن برأسه صوفة ولتجعلنّه ربيط الكعبة ففعلت فقيل له صوفة ولولده من بعده (العقاد، 2016)، وهنالك فرضية أخرى تُحيل إلى أنّ أصل الكلمة (صوفية) ليس عربيّا وإنّما ترجع إلى «أصل يوناني هو كلمة (سوفيا) وتعني الحكمة وأوّل من عُرف بهذا الرّأي: البيروني في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة.» (محمود، 2017). ومن الباحثين من يرجّح أنّ الأصل يوناني في كلمتين مركّبتين هما (ثيو) أي إله و(سوفي) أي الحكمة فيصبح المعنى: الحكمة الإلهية (العقاد، 2016). ولعلّ أصحاب هذا الرّأي يريدون به اثبات الأصل غير الإسلامي للتّصوف ويرجّحون أنّ التّصوف الإسلامي إنّما نشأ متأثرا بديانات سابقة وبأفكار لحضارات مجاورة للمسلمين وسنناقش ذلك في موضع آخر من البحث.

مفهوم التّصوف على لسان أهله

رأينا أنّه رغم تعدّد الاحتمالات في اشتقاق كلمة (صوفي) إلا أنّ الصّوفية ينسبون اللفظة إلى الصّفاء « كما جاء في كتاب التّعريف لمذهب أهل التّصوف: وسنورد هنا بعض التعريفات التي جاءت على لسان أهل التّصوّف وخاصته لنعرف كيف ينظرون إلى مذهبهم، وهي مرتبة ترتيبا زمنيا على النحو التالي:

- معروف الكرخي(ت 200هـ) يقول في التّصوف: «هو الأخذ بالحقائق واليأس ممّا في أيدي الخلائق» (القشيري ع.، 1987)، وهو تعريف بمعنى الزّهد، إذ يفسّره أبو العلا عفيفي قائلا: «إنّ الحقائق مقابل الرّسوم الشرعية، والمراد هنا هو النّظر إلى باطن الشريعة (حقيقتها) بالإضافة إلى القيام برسومها، واليأس مما في أيدي الخلائق أي الزّهد فيما يملكه النّاس من متاع الدّنيا» (عفيفي ، 1963)، غير أنّ نيكلسون يرى في هذا التّعريف أنّ التّصوّف بالنسبة لمعروف الكرخي «هو في جوهره وسيلة للمعرفة» (نيكلسون، 1947).

-بشر بن الحارث الحافي(ت 227ه) يرى أنَّ: «الصّوفي من صفا الله قلبه» (عفيفي ، 1963)، وهو تعريف ينسب التصوّف إلى الصفاء أي «عدم تكديره بالشّهوات والرّغبات وكلّ ما يشغل عن اللّه» (عفيفي ، 1963). وقد نظم أبو الفتح البستي هذا المعنى شعرا في قوله:

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى   

صافى فصوفي حتى سميّ الصّوفي

(العقاد، 2016)

-ذو النّون المصري(ت 245ه) يعرّف الصّوفية قائلا: «إنّهم قوم أثاروا الله على كلّ شيء فآثرهم الله على كلّ شيء» (محمود ع.، 2004). ويصف الصّوفي بقوله: «الصّوفي من إذا نطق كان كلامه عين حاله، فهو لا ينطق بشيء إلاّ إذا كان هو ذلك الشّيء، وإذا أمسك عن الكلام عبّرت أعماله عن حاله وكانت ناطقة بقطع علائقه» (عفيفي ، 1963)، فالصّوفي بالنّسبة له من طابق ظاهره باطنه وكانت أعماله دالة على أحواله.

-سهل بن عبد اللّه التستري(ت 283ه) يرى أنّ «الصّوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذّهب والمدر» (عفيفي ، 1963). وهو تعريف لا يخرج عن نطاق صفاء القلب من الشوائب التي تكدّره ويؤكّد على صلة العبد بربّه منقطعا لله وحده على أن يكون الصّوفي زاهدا في ملذات الدّنيا، فالصّوفي عند التستري هو من شغل فكره وقلبه بالله وقطع علائقه بالنّاس، وزهد بالقيم المادية في هذه الحياة (عفيفي ، 1963).

-أبو القاسم الجنيد(ت 297ه) حين سئل عن التّصوّف أجاب: «هو أن يميتك الحقّ عنك ويحيك به» (القشيري، 1987). وهو تعريف يقول بفناء الذات عن صفاتها والبقاء بالله.

يتّضح من خلال التعريفات السابقة بأنّ التصوّف يأخذ مفهوما بمعنى الزّهد في الحياة والإعراض عن ملذاتها ونبذ الشهوات تارةً، وهو مرتبط بصفاء القلب ونقاء السّريرة مرةً، وأهله متّصلون بالله منقطعون عن غيره من الخلائق إلى درجة الفناء عن الذّات والبقاء بالله.

نشأة التّصوّف وتطّوره

مسألة النشأة

إنّ الحديث عن نشأة التّصوّف هو الآخر محفوف بتعدّد الفرضيات، حيث نجد بعض الباحثين في التاريخ الإسلامي والمستشرقين من يُرجع نشأة التّصوّف إلى أصل إسلامي خالص، وفي المقابل هنالك من ذهب بأنه نشأ متأثّرا بديانات سماوية سابقة كاليهودية والمسيحية، أو بما عُرف من طقوس في عبادات خاصة بثقافات الأمم الأخرى كالفارسية واليونانية وحتى الهندية، فهل كانت نشأة التّصوّف إسلامية خالصة أم أنه نشأ عبر مؤثّرات دخيلة على الإسلام؟

لقد ناقش عبد الرّحمن بدوي أفكار الباحثين في التّصوّف الإسلامي بخصوص النشأة في كتابه تاريخ التّصوّف الإسلامي، فأشار إلى الاتجاهات الأربعة التالية:

-التأثير الإيراني

-التأثير المسيحي والعبراني

-التأثير الهندي

-التأثير اليوناني

وخلص إلى نتيجة مفادها أنّ كلّ الآراء التّي قيلت في هذا الصّدد غير وجيهة، ولم تثبتها الوثائق الكثيرة والنّصوص التي نشرت. ويضيف أنّ هذه الفرضية طُرحتْ بعد عام 1920، ثم عدَلَ عن رأيه بعضُ من قال بها (بدوي، 1978).

وعرض شوقي ضيف لمسألة نشأة التّصوّف الاسلامي في كتابه «تاريخ الأدب العربي»، فتطّرق إلى آراء المستشرقين الذين اهتمّوا بدراسة التّصوّف الإسلامي وبيان الأثر الأجنبي في نشأته «ومن هؤلاء فون كريمرAlfred vonKremerالذي ذهب إلى أنّ التّصوف يشتمل على عنصرين أساسين، عنصر مسيحي وعنصر بوذي هندي... وممّن شدّد على التأثير الأجنبي جولد تسيهر Ignac Goldzherإذ ربط بين التّصوّف وتعاليم الأفلاطونية الحديثة، كما ربط بينه وبين البوذية الهندية... وخفّف من حدّة القول بهذا التأثير الأجنبي ماسينيوس Louis Massignonفي بحوثه عن الحلاّج... وبالمثل خفّف من حدّة هذا القول نيكلسون   Reynold AlleyneNicholson» (ضيف، 1995).

ويبدو أنّ أوّل مستشرق ردّ نشأة التّصوّف إلى الأصل الإسلامي هو الفرنسي لويس ماسنيوس، إذ أنَّ دراسته «تُمكّن من التأكيد أنّ التّصوف الإسلامي، في أصله وتطوّره، صدر عن إدامة تلاوة القرآن والتّأمل فيه وممارسته» (بدوي، 1978). وفي نظره، أنّ التّصوّف الإسلامي «نشأ من التأمل المتواصل للقرآن الكريم والأحاديث النّبوية وهكذا تكون نشأته إسلامية خالصة ومن داخل الإسلام نفسه» (بدوي، 1978). وبهذا، يرى ماسينيوس أنّ المصدر الأوّل للتّصوف هو القرآن الكريم وتلاوته المشتركة بصوت مرتفع في مجالس الذّكر، أي تلك التلاوة التي كانت تجعل الصوّفي يسقط مغشيّا عليه من شدّة الخشوع أمام معاني القرآن الكريم.

إنّه لا يمكن الإنكار على الإسلام تصوّفَ بعض أهله الذين زهدوا في الحياة الدّنيا تقرّبا إلى الله لنيل أعظم جزاء في الآخرة، متأثرين في ذلك بمعاني القرآن الكريم حيث كان لهم في رسولهم الكريم  أسوة حسنة، بعيدا عن أي تأثر ببيئة أخرى أو ديانات سابقة، «فالتّصوّف نشأ أساسا عن ذلك الزهد الذي اتصف به النبي عليه الصلاة والسلام، والعدد الأكبر من الصحابة والتابعين، وكانت حالة الزهد أمرا طبيعيّ الحدوث بفعل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تحمل معاني التشجيع للمؤمن على العمل من أجل الآخرة ومحاولة الإقلاع عن الانغماس في عرض الدنيا الزائل. مع المطالبة بتزكية النفس والتوكل على الله، والخوف منه تعالى، والرجاء الدائم برحمة الله وغفرانه» (السمحراني، 2008). فالبداية الأولى للتّصوّف الإسلامي ظهرت في ظل الزهد الذي اتّصف به جماعة من المسلمين خلال أوج ازدهار الحضارة الإسلامية، وقد نأوا بأنفسهم عن رغد العيش وسعته، واتّخذوا لأنفسهم أسلوبا خاصا في الحياة، متّبعين منهجا غير مُشاع بين عامة النّاس في العبادة.

وقد ذكر ابن تيمية في رسالته «الصّوفية والفقراء» قوله: «إنّ الأمور الصّوفية التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، فافترق النّاس في أمر هؤلاء الذين زادوا في أحوال الزّهد والورع والعبادة على ما عُرف من حال الصّحابة فقوم يذمّونهم وينتقصونهم وقوم يجعلون هذا الطّريق من أكمل الطّرق وأعلاها... وعُرف أنّ منشأ التّصوّف كان من البصرة، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد ما له فيه اجتهاد كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد.» (ماسينيوس و مصطفى، 1984) و(ابن تيمية ، 1348هـ). وقد حدّد الباحثون تلك الفترة خلال «القرنين الأول والثاني الهجريين حيث أقبل الصوفية «على العبادة بأدعية وقربات، وكانت لهم طريقة زهدية في الحياة تتصل بالمأكل والملبس والمشرب، وقد أرادوا العمل من أجل الآخرة، فآثروا لأنفسهم هذا النوع من الحياة والسلوك، ونضرب لأولئك مثلا الحسن البصري المتوفي سنة 110ه، ورابعة العدوية المتوفاة سنة 185 ه» (الغنيمي التفتازاني، 1979).

إذن هذه المرحلة هي التي أسّست للتّصوف الإسلامي قبل أن يتطوّر لاحقا، وتتنوّع مشاربه وينقسم بين تصوّف سنّي وآخر فلسفي، إذ سوف يأخذ من مصادر أخرى خارجة عن البيئة الإسلامية، فتتعالق الأفكار الصّوفية بالأسئلة الوجودية ويتمازج التّصوّف بالفلسفة.

التطوّر الفكري للتّصوف

لقد عرفنا فيما تقدّم كيف نشأ التّصوّف داخل بيئة إسلامية خالصة آخذا من مصدريين اثنين هما: القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشّريفة، نابعا عن التّأمل الكبير في معانيهما السامية، وكيف كانت البصرة حاضنته الأولى على غرار الكوفة حاضنة لعلم الفقه، وهي مرحلة يعرّفها الباحثون بمرحلة الزّهد، فهل استمرّ التّصوّف على أسسه الأولى أم مسّته متغيّرات اتّجهت به سبيلا آخر؟ وما هي السّمات التي طبعت التّصوّف خلال المراحل التالية لمرحلة الزّهد؟

التّصوّف من الزّهد إلى علم للأخلاق

من شأن التعاقب التاريخي والتّحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أن تؤثّر في مسار أية حركة فكرية وتطوّرها، فلم يقف الصوفية عند حدود الزّهد والورع والتخشّع والتّضرّع إلى الله عزّ وجلّ، وإنّما نجدهم ومنذ «القرن الثالث للهجرة وقد عنوا بالكلام في دقائق أحوال النفس والسلوك، وغلب عليهم الطابع الأخلاقي في علمهم وعملهم فصار التصوف على أيديهم علما للأخلاق الدينية وكانت مباحثهم الأخلاقية تدفعهم إلى التعمق في دراسة النفس الإنسانية ودقائق أحوال سلوكها» (الغنيمي التفتازاني، 1979). اذ يبدو أنّهم استفادوا من تجاربهم الخاصّة في تخلية أنفسهم عن الطبائع الذميمة وتحليتها بالذّكر وتزكيتها بتقوى الله، فتمكّنوا بذلك من معرفة النّفس البشرية وما قد يصيبها من أمراض وسبل معالجتها  فكان «مبحث الأخلاق عندهم قائما على أساس تحليل النّفس الإنسانية لمعرفة أخلاقها الذّميمة، والتّكمّل الخلقي عندهم يكون بإحلال الأخلاق المحمودة عندهم محل الأخلاق الذميمة» (الغنيمي التفتازاني، 1979).

لم يبق التّصوف، إذن، محصورا في التجربة الفردية لبناء العلاقة مع الخالق، وإنّما اهتمّ أهله أيضا بالتّأمل في طبائع النّاس لمعرفة الإنسان، ومن ثمّ الدّعوة إلى تربية النّفس الإنسانية وتهذيبها وإصلاح الأخلاق للحصول على الإنسان الكامل المتسامي أخلاقيا.

علم التّصوف

فضلاً عن التعمّق في أحوال النّفس الإنسانية والاهتمام الكبير بالتّفاصيل الخُلقية، ذهب الصوفية «إلى الكلام في المعرفة الذوقية وأداتها ومنهجها وإلى الكلام عن الذات الإلهية من حيث صلتها بالإنسان وصلة الإنسان بها، وظهر الكلام في الفناء الصوفي خصوصا على يد البسطامي. ونشأ من ذلك كله علم للصوفية يتميز عن علم الفقه من ناحية الموضوع والمنهج والغاية، له لغته الاصطلاحية الخاصة التي لا يشارك الصوفية فيها غيرهم، ويحتاج فهم مراميها إلى جهد غير قليل.» (الغنيمي التفتازاني، 1979)

وقد أوردنا سابقا كلام الشيخ ابن تيمية عن منشأ التّصوّف والفقه في إشارة إلى العلاقة بينهما كعِلْمين متكاملين نشآ في بيئتين مختلفتين، هما علم الفقه في الكوفة يقابله علم التّصوّف في البصرة وبالتالي «انقسم علم الشّريعة إلى قسمين: علم يدلّ ويدعو إلى الأعمال الظاهرة التي تجري على الجوارح والأعضاء الجسمية وهي العبادات... وعلم يدلّ على الأعمال الباطنة ويدعو إليها، والأعمال الباطنة هي أعمال القلوب، وسمّي هذا العلم بعلم التّصوّف، وسمّى المتصوّفون أنفسهم بأرباب الحقائق وأهل الباطن» (ماسينيوس ومصطفى، 1984). ومن هنا ألّف المتصوّفة في مفاهيمهم وأفكارهم كما ألّف الفقهاء في الفقه وذلك بعد ظهور التّدوين كما يقول ابن خلدون في مقدّمته: «فلمّا كُتبت العلوم ودُوّنت وألّف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من هذه الطريقة (الصوفية) في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله القشيري في الرسالة والسهروردي (البغدادي) في كتاب «عوارف المعارف» فصار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط» (الغنيمي التفتازاني، 1979) و (ابن خلدون، 2014) نشأت في البصرة بين مفتون بها ومعارض لها، فقد أصّر شيوخ التّصوّف على وضع الأسس والقواعد لطريقتهم ثمّ  تدوينها وحفظها للأجيال كعلم له أصوله ومصادره.

التّصوّف الطُّرقي

بعد أن بدأ التّصوّف كتجارب فردية، انتشر كداعٍ للأخلاق السّامية وراح يترسّخ كعلم له قواعده وآدابه بفضل حرص بعض شيوخه على ذلك، إذ نجدهم قد تهيّأوا لتلقينه في مجالسهم «ففي القرنين الثالث والرابع الهجريين، نجد الجنيد، والسّرّىّ، والخراز وغيرهم يجمعون حولهم المريدين من أجل تربيتهم فتكونت لأول مرة الطرق الصوفية في الإسلام التي كانت آنذاك بمثابة المدارس التي يتلقى السّالكون فيها آداب التصوف علما وعملا» (الغنيمي التفتازاني، 1979). وشهدت هذه الفترة ظهور الطّرق الصّوفية في صورتها الأولى كالقصّارية،والطيفورية،والخرازية والنورية، والحلاجية، وأصبحت كلمة طريقة عند صوفية القرنين الثالث والرابع الهجري المذكورين في الرّسالة القشيرية تشير إلى مجموعة الآداب والأخلاق التي يتمسّك بها طائفة الصّوفية (الغنيمي التفتازاني، 1979).

أما القرن الخامس الهجري فتـميّز بظهور الإمام الغزالي الذي شكّل علامة فارقة في مسار التّصوّف الإسلامي حيث «لم يقبل من التصوف إلا ما كان متماشيا تماما مع الكتاب والسنة وراميا إلى الزهد والتقشف وتهذيب النفس وإصلاح أخلاقها. وقد عمّق الغزالي الكلام في المعرفة الصوفية على نحو لم يسبق إليه، وحمل على مذاهب الفلاسفة والمعتزلة والباطنية، وانتهى به الأمر إلى إرساء قواعد نوع من التصوف معتدل يساير مذهب أهل السنة والجماعة الكلامي ويخالف تصوف الحلاج والبسطامي في الطابع» (الغنيمي التفتازاني، 1979).

وقد تأثر بالإمام الغزالي العديد من شيوخ التّصوف لاحقا في وضع طرقهم الخاصّة المستمدّة من تعاليم القرآن الكريم والسّنة النّبوية، مستفيدين في ذلك من تجربته التي شكّلت مصفاة دقيقة لانتقاء ما يتناسب مع الشريعة الإسلامية بتكامل العلمين الفقهي والصّوفي، فظهر خلال القرن السادس الهجري «صوفية كبار كوّنوا لأنفسهم طرقا لتربية المريدين منهم السيد أحمد الرفاعي المتوفي سنة 570ه، والسيد عبد القادر الجيلالي المتوفى سنة 651هـ، ومن المعتقد أنهما متأثران بتصوف الغزالي، ثم ظهر في القرن السابع الهجري شيوخ آخرون ساروا على نفس الطريق أبرزهم أبو الحسن الشاذلي المتوفي 656ه، وتلميذه أبو العباس المرسى المتوفى سنة 686ه، وتلميذهما ابن عطاء الله السكندري المتوفى سنة 709ه، وهم أركان المدرسة الشاذلية في التصوف، ويعتبر تصوفهم أيضا امتدادا لتصوف الغزالي السني» (الغنيمي التفتازاني، 1979). وطرقهم ما تزال سائدة إلى يومنا هذا على عكس التّصوّف الفلسفي الذي لم يكتب لطرقه أن تستمرّ.

التّصوّف الفلسفي

من ضمن التّطوّر الفكري الذي طرأ على التّصوّف الإسلامي ذلك التداخل بالفلسفة الذيّ نشأ عنه ما عرف بالتّصوّف الفلسفي، وهو «الذي تمتزج فيه الأذواق الصّوفية بالنّظر العقلي باستخدام مصطلحات معيّنة خاصة بهم، تضرب بجدورها إلى مصادر مختلفة» (أحمد عطا، 1987). ويردّ الباحثون مصادر هذا النّوع من التّصوّف إلى أصول أجنبية عن الإسلام «كالفلسفة اليونانية، خصوصا مذهب الأفلاطونية المحدثة» (الغنيمي التفتازاني، 1979). لكّننا نجد عبد الرّحمن بدوي يقلّل من حدّة تأثيرها على التّصوف الاسلامي قائلا: «إنّ أبرز السمات الأجنبية الأصل تلك المستمدّة من التراث الفلسفي اليوناني، ومعظمها مصطلحات، ثمّ من الرهبانية المسيحية وهي مجرّد عادات في التّقوى» (بدوي، 1978).

وقد ظهر هذا المزج ين الفلسفة والتصّوف حسب الدّارسين خلال «القرن السادس الهجري إذ نجد مجموعة من شيوخ التّصوف الذين مزجوا تصوّفهم بالفلسفة، فجاءت نظرياتهم بين بين، لا هي تصوّف خالص، ولا هي فلسفة خالصة» (الغنيمي التفتازاني، 1979). فهو ليس بفلسفة لأن الصوفية أصلا ثاروا على الفلسفة لاعتمادها على المنهج العقلي، بينما هم يعتمدون على المنهج الذّوقي للوصول إلى المعرفة كما يعبّر عن ذلك أبو العلاء عفيفي في كتابه «التّصوّف الثّورة الرّوحية في الإسلام».

ومن أعلام هذا النّوع، نجد السهروردي (ت 549هـ) صاحب كتاب «حمة الاشراق»، والشّيخ الأكبر محي الدّين ابن عربي (ت 638هـ)، وسلطان العاشقين الشاعر الصّوفي ابن الفارض (ت 632هـ)، وعبد الحق بن سبعين المرسي (ت 669هـ). وقد قدّم لنا أولئك المتصوّفة نظريات عميقة في النّفس والأخلاق والمعرفة والوجود لها قيمتها من الناحيتين الفلسفية والصّوفية» (الغنيمي التفتازاني، 1979). لكنّهم أثاروا حفيظة الفقهاء ورجال الدّين، فاشتدّ وطيس الجدل، والأخذ والرّد بين الفقهاء وبينهم.

إنّ التّصوّف الذي نشأ كخيار فردي باتخاذ طريقة خاصة في العبادة قائمة على الزّهد تطوّر بفضل علمائه ومشايخه إلى وسيلة لتلقي المعرفة؛ معرفة الإنسان من خلال دراسة أحوال النّفس البشرية وسبل معالجتها، ومعرفة ذوقية بالله وبالعالم من خلال تلقي الفيوضات الربانية، كما صار يلقّن للمريدين والسالكين الرّاغبين في اتخاذه طريقة للعبادة للتّدرج في مقاماته وبلوغ أرقاها يريدون وجه الله تعالى في الدّنيا والآخرة مع اختلاف رؤاهم وأفكارهم وطروحاتهم الوجودية.

فنون التصوف

تعرّفنا فيما تقدّم من البحث على حركة التّصوّف ونشأته وكيف تطّور واتّخذ أقساما، وقد خلّفت هذه الحركة على مرّ مراحلها كمّا هائلاً من الأثر الأدبي شعرا ونثرا على أيدي شخصيـات برزت في التّصوف بقسميه السنّي والفلسفي، تركتْ لنا نفائس أدبيـة أودعوا فيها المعاني الروحيـة والقيم الإنسانية السمحة، فضلاً عن العـديد من المؤلّفات والمجلّدات التي تتمثّل في تراجم للمتصوفة. كما «نشأ على يدهم أيضا فن علمي جديد هو (فنّ المناقب) وهي كتب تتعرّض لمناقب الأولياء والصالحين من الصوفية.. وكذا كتب طبقات الصوفية وكثر التأليف فيها» (الخطيب، 1404هـ)، والعديد من المؤلفات التي يعبّر بها المتصوفة عن أفكارهم وفلسفاتهم، وكذا مؤلّفات في الطرق الصوفية، وهي كثيرة لا يتّسع المقام للحديث عنها.

وتجدر الإشارة أن من خصوصيات الأدب الصّوفي عدم تصنيفه من قبل الدارسين لتاريخ الأدب العربي ضمن التقسيمات الشائعة للأدب حسب العصور السياسية، بل إنّه نُسب مباشرة إلى حركة التّصوف منذ بزوغ فجرها في القرن الثاني الهجري إلى يومنا هذا، ويعدّ «الأدب الصوفي المنثور بابا واسع المدى فسيح الأرجاء، وهو خلاصة تعبيرية عن وحي عقول مؤمنة عابدة متبتّلة منذ بدء ظهور حركة التّصوف حتى اليوم « (الخطيب، 1404هـ). فالنثر الصوفي هو ذلك اللّون الأدبي الخاص الذي أثر عن الصّوفية من القرن الثاني الهجري، وهو نثر كثيـر وألوانه متعددة، ومنها نذكر:

الرثــاء

أثرت عن الصّوفية مراث بليغة رائعة تدلّ على روح دينية، وذوق صوفي، وإلهـام عميق، دلت عليها مواقف كثيرة للصوفية، منها قول ابن السماك يوم مات داوود بن نصر الطائي سنة 165هـ، وهو رثاء فريد عرف قائله كيف يحدد خصائص من بكاه حيث جاء فيه: «يا داوود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك، وأهنت نفسك وإنّما تريد إكرامها، وأتعبتها وإنّما تريد راحتها، أخشنت المطعم وإنّما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنّما تريد ليّنه، ثمّ أمتّ نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قـبل أن تقبر، وعذّبتها ولمّا تعذب، وأغنيتها عن الدّنيا لكي لا تذكر...» (الخطيب، 1404هـ).

الزهد

كثر هذا اللون من الأدب في آداب الصوفية ومؤلّفاتهم، ونستطيع القول بأنّ هذا الأدب كان مقدّمة وتمهيدا للتّصوف، ممثلاً في الإعراض عن مباهج الحياة، والانصراف إلى الله تعالى بالقلب والنفس. وذلك ما نجده في قول رابعة العدوية حين قال لها رجل من أهل الدنيا: (سليني ما شئت) فأجابته: «إنّي لأستحي أن أسأل الدّنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها» (الغنيمي التفتازاني، 1979). وقول القيم: «مثلت الدّنيا بالـمنام، والعيش فيها بالحلم، والموت باليقظة، ومثلت بـمـزرعة والعـمل فيها البذر والحصاد يوم الميعاد ...» (الخطيب، 1404هـ).

النصائح والوصايا

وهو فنّ من فنون النّثر الصوفي امتاز بالقوة في الألفـاظ والمعاني قصد توجيه النّصائح لما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته. مثال ذلك ما نصح به أبو النّصر الطائي الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك فقال له: «سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحقّ الله تعالى إنه قد اكتنفـك رجال أساؤوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضوا بسخط ربّهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك فهم حرب للآخرة وسلم في الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ...» (الخطيب، 1404هـ).

المناجاة

وهو الأدب الذي اخترعه الصوفية في مناجاة الله تبارك وتعالى وخطابه، والتّحدث إليه، وهو أدب يجذب العقول بجمـاله، وبلاغته، وسحره، وروعته. ومن صوره قول معروف الكرخي: «سيّدي، بك تقرّب المقرّبون في الخلوات، ولعظمتك سبحت الحيتان في البحار الزّاخرات، ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات، أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النّهار، الفلك الدّوار، والبحر الزّخار، والقمر النّوار والنّجم الزّهار، وكل شيء عندك بمقدار لأنك العلي القهّار» (الخطيب، 1404هـ).

الرّسائل

تُعتبر فنًّا نثريًّا قائمًا على التراسل بين الأشخاص، وقد أثر عن بعض المتصوّفة رسائل كتبوها إلى بعضهم أو إلى تلامذتهم، تتفاوت في الطول حسب موضوع الرسالة، ومنها على سبيل المثال رسائل أبي القاسم الجنيد ورسائل أبي حامد الغزالي وغيرهما من أعلام التّصوف، حيث جاء في رسالة من الجنيد إلى بعض إخوانه قوله: «لا زلت أيّها الموجود بباب الله راتبا، وبه منه إليه لما يحبّه منك طالبا، وله في آلائه وغريب أنبائه راغبا، فحبّك به عليه فيما يحبّه لك ويبلّغك إليه، باصطفائه إلى ما يريده منك، ليصطفيك فيما يولك بما ينتخبه لك ويجتبيك ...» (الجنيد، 1988).

ومن رسائل أبي حامد الغزالي المعروفة رسالة «أيّها الولد» في فضل العلم والعمل به التي ردّ فيها على خطاب أحد تلاميذه، جاء في نصّها: «أيّها الولد: كم من ليال أحييتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب وحرّمت على نفسك، لا أعلم ما كان الباعث فيه إن كان نيل عرض الدّنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصها والمباهاة على الأقران والأمثال فويل لك ثمّ ويل لك، وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النّبي- صلى الله عليه وسلّم- وتهذيب أخلاقك وكسر النّفس الأمّارة بالسوء، فطوبى لك ثمّ طوبى لك ...» (الغزالي ، 1416هـ).

الـموعظة

الوعظ والإرشاد هو مجموعة القواعد والأصول المنهجية التي يقوم عليها تكوين الخطب الدينية وإلقاؤها، وهو زجر مقترن بتخويف ونصح وتذكير بالعواقب (البلهيد، صفحة فقه الوعظ http://www.saaid.net/aldawah/339.htm). وأمثلة ذلك ما أثر من مواعظ للحارث المحاسبي (ت 243هـ)، حيث قال في إحداها: «اشتغل بإصلاح نفسك عن عيب غيرك، فإنّه كان يقال: كفى بالمرء عيبـا أن يستبين له من النّاس ما يخفى عليه من نفـسه، أو يمقت النّاس فيما يأتي مثله، أو يؤذي جليسه، أو يقول في النّاس ما لا يعنيه» (المحاسبي، 1999).وكان المحاسبي يلقي هذه المواعظ ليعالج بها الانحرافات، ويصحّح المفاهيم، ويبيّن عوار الفرق التي خرجت على مذهب أهل السّنة والجماعة. ويبيّن خطر العباد المنحرفين بسلوكهم ومعتقداتهم أيضا (المحاسبي، 1999).

الحكمـة

وهي فن أدبي قديم، جاءت في ثوب نصائح وليدة تجارب في الحيــاة، بيد أنّ الصوفيين صبغوها بصبغـة روحيـة، وألبسوها ثوبا من الورع والزّهد والتّقــوى، ومن أشهر الحكم، حكم العارف بالله أبي عطاء الله السّكندري التي سنتوقّف عندها في محاولة لقراءة وتحليل بعض من نصوصها، وفق مقاربة أسلوبية تكشف عن خصائص النّثر الأدبي الصّوفي.

لقد تنوّعت فنون النّثر الصّوفي حسب مضامينها إلاّ أنّنا نجد جلّ هذه الفنون في التراث الأدبي العربي عامة منذ العصر الجاهلي، لكنّ المتصوّفة ألبسوها حلّة دينية وخلقية وفق رؤية صوفية وأضفوا على تلك الفنون لمسة روحية خاصة بالذّوق الصّوفي.

تحليل خطاب النّثر الصوفي في الحكم العطائية

قبل دراسة وتحليل نماذج من الحكم العطائية، من الضّروري أن نقف عند ترجمة موجزة لصاحبها، ثم الإشارة إلى مكانة تلك الحكم من بين ما ألّفه المتصوّفة نثرا، مع تقديم شرح لها بما تفضل به بعض المشايخ. فمن هو ابن عطاء الله السكندري؟ وما المكانة التي حظيت بها حكمه في أوساط المتصوّفة والعلماء والدّارسين؟

ترجمة ابن عطاء الله السّكندري

هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله، يلقّب بتاج الدين، وبأبي الفضل، وبأبي العباسي، ويكنى بالسكندري لأنه من أهل الإسكندرية، نشأ في أسرة مشتغلة بالعلوم الدينية وتدريسها خلال النصف الثاني من القرن السابع الهجري، كان جدّه فقيها معروفا في عصره، فنشأ ابن عطاء الله كجدّه فقيها مشتغلا بالعلوم الشرعية.

تميّزت حياته بثلاثة أطوار أساسية هي: الطور الأوّل بمدينة الاسكندرية قبل عام 674ه،ـ نشأ فيه طالبا لعلوم عصره الدينية، من تفسير وحديث وفقه وأصول نحو وبيان وغيرها، أما الطور الثاني فيبدأ من سنة 674هـ وهي السّنة التي صاحب فيها شيخه أبا العباس المرسي وفيه تصوّف على طريقة الشاذلي، ولم ينقطع عن طلب العلوم الدينية، ثمّ اشتغل بتدريسها حينا، أما الطور الثالث فيبدأ بارتحاله من الاسكندرية إلى القاهرة ليقيم بها، وينتهي بوفاته بالقاهرة سنة 709هـ وهو طور نضوجه واكتماله كصوفي وفقيه (النفري الرندي، 1988).

تعريف الحكم العطائية ومكانتها

تضمُّ مائتين وأربعا وستين حكمـة، سمّيت كذلك نسبة لناظمها ابن عطاء الله، وقد عرّفها الحاجي خليفة صاحب «كشف الظنون» فقال: «هي حكم منثورة على لسان أهل الطّريقة، ولمّا صنّفها عرضها على شيـخه أبي العبّاس المرسي فتأمّلها وقـال له: لقد أتيت يا بني في هذه الكراسة بمقاصد الإحياء وزيادة، ولذلك تعشّقها أرباب الذّوق، لما رقّ لهم من معانيها وراق، وبسطوا القول فيها وشرحوها كثيرا، وقيل أنّها مرتّب بعضها على بعض، فكلّ كلمة منهـا توطئة لما بعدهـا، وشرح لما قبلها» (الشرنوبي، 1989).

طبعت هذه الحكم طبعات عديدة، واهتمّ بها الكثير من العلماء والصّوفيين ودارسي الأدب، وأفردوا لها عدّة شروحات منها: شرح محمد بن ابراهيم بن عباد النّفري الرندي، وشرح صفي الدين أبي المواهب، وشرح محمد بن ابراهيم المعروف بابن الحنبلي الحلبي (الشرنوبي، 1989)، وشرح أحمد بن محمـد بن عجبية الحسني بعنوان «إيقاظ الهمم في شرح الحكم». أما في العصر الحديث فهناك شرح عبد المجيد الشرنوبي، وشرح الشيخ محمد رمضان سعيد البوطي الذي جاء في خمسة مجلّدات. كما شرحها سعيد حوى الذي قسّمها على ثمانية أبواب في كتابه «مذكّرات في منازل الصّديقين والرّبانيين». وينقل عن زكي مبارك قوله أنها: «سفر من أسفار الأدب العالي، وكانت هذه الـمجموعة من الحكم مما يدرّسه كبار العلماء في الأزهر الشريف، وهذا الاهتمام بتدريسها هو صورة جديدة للحفاوة بتلك اللآلئ النفيسة... ولا تزال على كثرة ما لقيت من الشرح والدّرس تبعث في قلوب المريدين أنوارا لم يتنوّرها الشارحون» (مبارك، 2012). ولا تزال هذه الحكم تستقطب الشّرح والدّرس لعظم شأنها ومكانتها وهو ما جعلنا نخوض في تحليلها ودراستها لعلّنا نكشف عن بعض جمالياتها من وجهة فنّية أدبية.

دراسة الحكم الأنموذج وشرحها (من الرقم 118 إلى الرقم 120) (الشرنوبي، 1989، صفحة من 95 إلى 97)

-لمّا علم الحق منك وجود الملل لوّن لك الطّاعات، وعلم ما فيك من وجود الشره فحجرها عنك في بعض الأوقات، ليكون همّك إقامة الصّلاة لا وجود الصلاة، فما كل مصلّ مقيم.

-الصلاة طهرة للقلوب من أدناس الذّنوب، واستفتاح لباب الغيوب.

-الصلاة محلّ المناجاة ومَعدِن المصافاة تتسع فيها ميادين الأسرار وتشرق فيها شوارق الأنوار. علم وجود الضّعف منك فقلّل أعدادها وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها.

في القراءة الأولى لهذه الحكم تتبادر إلى أذهاننا الآيات الكريمة التي نزلت في أداء فريضة الصلاة إذ يقول الحّق سبحانه وتعالى في سورة النساء: ﴿فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا ١٠٣﴾ (النساء:  103)، وقوله تعالى في سورة الماعون: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ ٤ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ ٥﴾ (سورة الماعون: 4-5)، وغيرها من الآيات الكريمة التي نزلت في فريضة الصّلاة، كما نجد بصورة جليّة ظلال حادثة رحلة الاسراء والمعراج النّبوي أين فُرضت الصّلاة على النّبي بين يدي ربّه، مما يدلّ على أنّ مصدر ابن عطاء الله السكندري في انشاء حكمه يعود إلى الكتاب والسّنة.

وسنقدّم شرحا لهذه الحكم وفق ما تفضّل به كل من فضيلة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي والشّيخ سعيد حورى والشيخ عبد المجيد الشّرنوبي :

-«لمّا علم الحق منك وجود الملل لوّن لك الطّاعات» لماذا جعل الله الطاعات متنوّعة؟ صلاة وزكاة وأذكارا وصياما وحجّا وتلاوة قرآن وإقراء سلام وإطعام طعام؟ لأنّ الإنسان من طبيعته التي ركّبه الله عليها وجود الملل... فنوّع له الطاعات حتى يخرجه من الملل» (حوى، 1999).

-«وعلم ما فيك من وجود الشره فحجرها عنك في بعض الأوقات» لا يحق لك أن تصلّي عند طلوع الشمس وقبيل زوالها وعند غروبها إلاّ عصر اليوم نفسه، ولحكمة من ذلك أنّ الإنسان أحيانا يصير عنده نوع من الاندفاع والغلوّ في العمل بما يعطّل واجبات أخرى؛ فحجر الله عليه أن يؤدّي بعض العبادات في بعض الأوقات (ليكون همّك اقامة الصّلاة لا وجود الصلاة فما كل مصلّ مقيم) أي على الإنسان أن يستهدف إقامة الصّلاة لا مجرد الصّلاة فالصّلاة هي مرتكز العبادات القولية والجسدية(حوى، 1999) وعلى المصلّي أو المريد في مقابل التلوين في الطاعات والتخفيف من أوقاتها أن يكون همّه  منصرفا إلى إقامة الصّلاة على وجهها الكامل دون أن يشوبها نقص في الشروط أو اخلال في الآداب، بل يؤدّي صلاة تامة الأركان منسجم الظاهر مع الباطن في الخشوع أثناء إقامتها.

-«الصلاة طُهْرَةٌ للقلوب من أدناس الذّنوب» فأوّل فائدة للصّلاة أنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتطهّر القلوب  من الذنوب،  (واستفتاح لباب الغيوب):فأنت عندما تقف في الصّلاة تستذكر كلّ أمور الغيب التي هي من شروط الإيمان؛ فهي تذكير بالله تعالى، وبالأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، و تذكير بالملائكة، وتذكير بالجزاء والعقاب... فعندما يقبل الإنسان على الصلاة إقبالا حقيقيا يصبح بينه وبين الغيب بابا مفتوحا وبقدر ما يكون قلبه مشرقا يتفاعل مع الغيوب (حوى، 1999)، وذلك لأن القلوب مركز الباطن الذي يتلقى المكاشفات «فإذا طهرت وتزكّت رُفعت عنها الحجب والأستار، فترى ما كان غائبا عنها من المعارف والأسرار» (الشرنوبي، 1989).

-«الصلاة محل المناجاة» صحيح أن العبد بوسعه أن يناجي ربّه في كل الأحوال ومن خلال سائر العبادات، لكنّه بذلك يتوجّه إلى الله بالخطاب والثّناء من طرف واحد، أي من طرفه هو، أما ما يعبّر عنه الشيخ هنا فهو مختلف، إذ يريد بالمناجاة أن يدلّ على المشاركة فاللفظة على وزن ( مفاعلة )، فخطاب المصلّي لربه ليس خطابا من طرف واحد، بل إنّ العبد كما يتّجه إلى ربه بالتّوحيد والثّناء والدّعاء، يتوجّه الرّب جل جلاله فيها إلى عبده بالإجابة والمصافاة والقبول ودليل ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ...» (البوطي، 2004).

-«ومعدن المصافاة تتسع فيها ميادين الأسرار وتشرق فيها شوارق الأنوار « فأنت عندما تقف في الصّلاة فأنت في عملية تصفية لقلبك ... فالصلاة تصفية لسرّ الإنسان وتطهير له، فما دمت في صلاة فأنت في اشراق نور (حوى، 1999). والقلوب عند الصّوفية هي بمثابة مكمن كل الأسرار لذلك هي تتّسع لاستقبال الأنوار الرّبانية التي تشرق عليها، وتنشرح لما يتوارد عليها من الأسرار الغيبية والمعارف التي تكشف لها.

-«علم وجود الضّعف منك فقلّل أعدادها وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها.» ثم ذكر السكندري عن الصّلاة شيئا آخر يكشف عن بالغ لطف الله بعباده ورحمته بهم ... هو عجزهم عن تحمّل التردّد على أعتابه خمسين مرّة، في كل يوم وليلة فلم يحمّلهم من ذلك إلاّ العشر... ولمّا علم احتياجهم إلى رحمتـه وصفحه خفّف عنهم تحمّل العبء دون أن يخفّف لهم من المثوبة والأجر، وهذا معنى قول الشيخ (البوطي، 2004). أي أنّ الله عليم بقدرات عبده فلم يحمّله ما لا طاقة له به لأداء فريضة الصلاة، فخفّف عنه في الفريضة وضاعف له في أجرها، رحمة ولطفا منه بعباده سبحانه.

التحليل الأسلوبي للحكم الأنموذج

أسلوبية التّركيب

ينقسم هذا المستوى من التّحليل إلى جانبين هما: البناء التركيبي العام، والبناء الجزئي على مستوى الجمل.

البناء التركيبي العام

لعلّ ما يلاحظ عامة على حِكم ابن عطاء الله السّكندري أنّها متسلسلة ومترابطة فيما بينها كأنّها نصّ واحد رغم أنّها منفصلة ومرقّمة، ومن الأدوات اللّغوية التّي تبرز هذا التّرابط هو أنّ سردها جاء باستعمال ضمير نحوي واحد هو ضمير المخاطب (أنتَ)، فهو يخاطب بها المتعلّم أو من وجهة صوفية يخاطب بها المريد الذي عليه أن يأخذ بها ويستعين بمعانيها في شق طريقه كسالك نحو الحق.

وإذا تتبّعنا الحكم الأنموذج الثلاث، نجد أنّ أوّل حكمة تتحدّث عن طبيعة الإنسان وما يختلجه من صفات نفسية بين الملل والشّره مع إبراز الحلول الإلهية للعلّتين، وهما التنويع في الطاعات وتحديدها بأوقات. ونلاحظ كيف كان الحديث في بداية الحكمة عن مجموع الطاعات، ثمّ في آخرها خصّ الصّلاة بالحديث عن انعكاس ذلك التّنويع على جودتها وقيمتها لأنّ الصّلاة هي أوّل العبادات وعمادها، أي عن جودة سامية في آداب اقامة الصّلاة، وهي «الصلاة التي يكون فيها العبّد حاضرا مع ربّه بالقلب والعقل والنّفس والجوارح، ويقول السهروردي عن صاحبها أنه مصل واف» (السهروردي، 1983).

ثم تأتي الحكمة الثانية لتوضّح ما ستفعله الصّلاة ذات الشّروط المستوفاة بالمريد، فهي تطهّر قلبه أي تصفيه من المكدّرات، وتستفتح له باب الغيب، فيقف مؤمنا بين يدي ربه مستحضرا كلّ الغيبات التي هي من شروط الإيمان. أما أهم ما طبع الحكمة الثالثة فهو التطرّق إلى المكاشفات التي تنساب على المريد بفضل تجويده لصلاته مع الاشارة إلى المدد المضاعف من قبل الحق سبحانه وتعالى.

إنَّ ما أردناه من هذا العرض هو اتباث الترابط المنطقي للأفكار الواردة في الحكم، والتسلسل الأسلوبي في عرضها، بدءًا بالتأمّل في طبيعة النّفس الإنسانية ومواكبة العبادات والطّاعات لما يتناسب معها، ثم تقديم الدليل على ذلك بفريضة الصلاة المضبوطة بمواقيت تتماشى مع رغبات الذّات الإنسانية وتحوّلاتها، ثمّ وصولا إلى النتائج والمدد المترتب عن إقامتها، فكأن ابن عطاء الله السكندري يعرض المشكلة ثم يناقشها ويبيّن جوانبها ليختم بالنتائج، وهو دليل على العناية بالسّبك المحكم عنده وكلّ ذلك وفق خطاب مكثّف يظهر في جزئيات النّص كما سنرى لاحقا.

بنائية الجمل ودلالاتها

: الملاحظ من القراءة الأفقية للجمل التي تكوّن نصوص الحكم أنها متفاوتة الطّول ما بين قصيرة ومتوسطة وهي متنوّعة البنية بين اسمية وفعلية وقد غلب فيها معنى الشّرط كما سنوضّح:

-لمّا علم الحقّ منك وجود الملل، لوّن لك الطّاعات؛جاءت هتان الجملتان بمعنى الشّرط وجوابه، فـ(لمّا) هنا ظرفية شرطية بمعنى(حينَ) لزمن غير محدّد، وقد اقترنت بالفعل الماضي (عَلِمَ) ونحن نعلم أن الفعل الماضي يفيد الاستمرارية، و(الحقّ) فاعل وهو جلّ جلاله عالم في الأزلية مستمر في العلم إلى الأبدية، فيصبح معنى العلم سرمديا ومتّصلا بالوجود ( علم الحق منك وجودَالملل)، إذ كان بالإمكان القول (علم فيك الملل) أو (علم عنك الملل) لكن الفاعل هنا هو(الحق) الموجِدُ لكلّ شيء وعالم به منذ أوجده، فأردف النّاص لفظة (العلم) بطبائع الانسان (منك) باللفظة (وجود) للدّلالة على أنه سبحانه مذ أوجدَ الإنسانَ علم بطبائعه وما يضطرب في نفسه وما يخالج جوارحه فـ  الله عليمٌ بذَاتِ الصٌّدور. ثمّ تأتي جملة جواب الشّرط الفعلية (لوّن لك الطّاعات) والتّلوين هنا بمعنى التّنويع، ليُقابل النّاصُ بين المتضادّين (الملل) و(التنويع) فينجلي المعنى من خلال هذه الثنائية الضّدّية على نحو مكثّف، فالعَالِم الموجِدُ للإنسان سنّ له السّنن وفرض عليه الفرائض بالكيفية التي يُطيقها وتذعن لها نفسه حسب ما جُبلت عليه. وقد اكتفى النّاص بجملتين قصيرتين في المبنى فاضتا بمعان خَلْقيةٍ ووجودية، وتعبّران عن حركية متواصلة في الخَلق والعِلم بشؤونه وتسييرها، فكلّ لفظة في الجملة محمّلة بطاقة الحركة والاستمرار الكونيين.

-وعلم ما فيك من وجود الشّره، فحجرها عليك في بعض الأوقات؛ في هاتين الجملين حذفت (لمّا) لكن يبقى أصل الجملة (ولمّا علم الحق ما فيك ...) لأن الجملتين جاءتا معطوفتين على سابقتيهما وبنفس المعنى الشّرطي، ولعلّ حذفها يفيد مطلقية علمه سبحانه (الفاعل المحذوف) دون حاجة لأي نوع من ظروف الزّمان، كما أن الحذف يلغي التكرار الذي سيثقل انسياب النّص. إنّ الجملتين قائمتين على المقابلة بين المتضادّين أيضا، (الشّره) و(الحجر)، فالشّره بمعنى (الاستزادة) يقابله الحجر بمعنى (المنع)، فمن رغب في الاستزادة لأنه استلذّ فريضة الصّلاة قابله المنع منها في (بعض الأوقات) وبعض هنا تفيد (التجزأة) من (الكلّية)، ثم جات (الأوقات) بصيغة جمع القلة، فالنّاص لم يقل (... بعض المواقيت) وذلك للدلالة على قلّة الأوقات التي حجرت فيها الصّلاة عن المصلّي، وكلّ ذلك حتى لا يقع في الملل، وهي العلة التي عالجها سبحانه بالتّنويع في الطّاعات. وقد جاء الفعل (حجر) مقترنا بفاء الفجأة، لأنّ الحجر يكون من العارف بالشيء وذي سلطة عليه على نحو يفاجئ به من هو أقل معرفة منه بالشيء وأقل سلطة كذلك، فقلّة العلم بالشّيء تؤدّي إلى افساده، كالحجر على السّفيه أو على غير السّوي عقليا أو على غير البالغ وغيرها من الحالات. والحق يحجر الصلاة في بعض الأوقات رحمة بالإنسان كما رأينا آنفا في شرح الحكم. وأصل الكلام في هذه الجملة هو؛ فحجر الحقُ الصّلاةَ عليك في بعض الأوقات) ما يبرز العناية بتجويد الصّياغة، فالنّاص ينشد متانة التركيب في تأليف حكمه.

- ليكون همّك اقامة الصّلاة لا وجود الصلاة، فما كل مصلّ مقيم؛ اختلف الأسلوب نوعا ما في هاتين الجملتين اذ تخلّلهما أسلوب النّفي، فالجملة الأولى (ليكون همّك إقامة الصلاة لا وجود الصّلاة) أصلها (لكي يكون همك ...) بدأت بحرف جر(لام) مع اضمار أداة النّصب (كي) والتي تفيد التّعليل لما تقدّم من تلوين للطاعات وحجرها في أوقات. وقد جاءت لفظة (ليكون) وصفا لاسمها (همّ)دون غيرها من النّواسخ، فالنّاص لم يقل (ليصبح همّك إقامة الصّلاة) أو ( بات همّك ...) فتكون الصّلاة هنا مقرونة بزمن (الصباح أو المساء) وإنّما أسند (إقامة الصّلاة) وهي جملة الخبر لـ (يكون) إلى اسمها (همّك) المقترن بالكينونة المضارعة والتي تفيد الاستمرارية من الحاضر إلى المستقبل، كما أنّ النّاص لم يقل (كان همّك ...) لأن اقامة الصّلاة مقرون بالزمن الحاضر المتواصل في حركية دائمة إلى المستقبل، فكأنّ النّاص يدعو المتلقّي أو المتعلّم أو المريد إلى الاهتمام المستمرّ بإقامة الصّلاة لا مجرد أدائها طيلة زمن وجوده من حاضره إلى مستقبله. ثم يأتي أسلوب النّفي في (لا وجود الصّلاة) والأصل (لا يكون همّك وجود الصّلاة) والحذف هنا تفاديا للتّكرار وتكثيفا لبناء الجملة ومن ثمّ تحقيقا لبلاغة الكلام. أما الجملة النافية الثانية (فما كلّ مصلّ مقيم) فالأصل فيها (فليس كلّ مصلّ مقيم) وقد جاءت (ما) لتعمل عمل النّاسخ (ليس) فتنفي اقامة الصّلاة عمّن يكون همّه وجود الصّلاة. ولعلّ استبدال (ليس) بـ(ما) جاء تماشيا مع نغم معين يتخلّل هذه الحكم وتحقيقا لجمالية صوتية سنتطرّق إليها في مستوى آخر من التّحليل.

-الصلاة طهرة للقلوب من أدناس الذّنوب، واستفتاح لباب الغيوب؛ هذه حكمة منفصلة كاملة، وجاءت في جملة اسمية طويلة نسبيا ذات (مسند إليه) واحد واثنين من (المسند)، والمعروف عن الجملة الاسمية أنها تفيد «ثبوت شيء لشيء ليس غير» (عتيق، 2009)، خاصة إذا كان خبرها اسما أو جملة اسمية كما هو الوضع في هذه الجملة، فالصّلاةُ (مسند إليه) وطهرةٌ (المسند) بما لا يدع مجالا للشّكّ أو التّأويل، فالطّهر ثابت على الصّلاة، ثمّ جاء تخصيص (القلوب) بالتّطهير (من أدناس الذّنوب)، لأنّ النّاص كما ذكرنا سابقا يتحدّث عن صلاة يحضر فيها العبد مع ربّه بقلبه وجوارحه، فخصّ القلوب كونها بواطن المصلّين بالانعكاسات التي تصيبها من أثر تلك الصّلاة، حيث تصفو من المكدّرات والذنوب. ثمّ تأتي الجملة الثانية المعطوفة على سابقتها (واستفتاح لباب الغيوب) فنجد (استفتاح) خبر ثان لـ(الصّلاة) اذ يصبح أصل الكلام (الصلاة طهرة واستفتاح) أما باقي الكلام فهو من باب التخصيص للأمر، فكما أنّ (الطهرة) ثبت على الصلاة، فكذلك ثبت عليها الاستفتاح، وكما أنّ (الطّهر) خصّ (القلوب) فكذلك (استفتاح) تخصّ (باب الغيوب) فالصّلاة الكاملة تفتح لصاحبها أبواب الغيب.

-الصلاة محل المناجاة ومعدِن المُصافاة؛ هذه أيضا جملة اسمية يسري عليها ما يسري على سابقتها من دلالة الثبوت، فهي مكوّنة من مبتدأ وخبرين ( الصلاة مبتدأ) خبريها جملتين اسميتين مكوّنتين من مضاف ومضاف إليه، الخبر الأوّل (محلُّ المناجاة) وخبرها الثّاني( معدِن المصافاة) ودلالة الخبرين هنا هي ابراز القيمة الرّوحية لفريضة الصّلاة وعظم شأنها، فهي (محلّ المناجاة) ومحلّ هنا جاءت بمعنى (فضاء)، فالمصلّي يتهيّأ للصّلاة ويتخذ مكانا محدّدا (المسجد مثلا) ويتّجه وجهة معيّنة (القبلة) ويحضر مع ربّه في موقف اجلال له سبحانه، والمعنى هنا أنّ النّاص يجعل من هذا المشهد الفضاء الأنسب لفعل المناجاة أي مخاطبة الله عزّ وجلّ. وهي أيضا (معدِن المُصافاة) ومعدن هنا بمعنى الموضع، والمصافاة أصلها من التّصفية، فيصبح المعنى أنّ الصّلاة موضع الاستغفار والتوبة وطلب العفو ... أي التصفية والتنقية من الذّنوب، وهو ما يؤكد على المعنى السابق (الصلاة طهرة للقلوب من أدناس الذّنوب) ما يوضّح التّلاحم بين نصوص الحكم.

-تتسع فيها ميادين الأسرار، وتشرق فيها شوارق الأنوار؛ يعود المؤلّف إلى التعبير باستخدام الأفعال المضارعة التي تفيد الحركة واستمراريتها، والملاحظ أنّ الفعل (تتسع) ينبّؤ بحركية كبيرة سائرة نحو المزيد من الامتداد والرّحابة دون حدّ، ضدّ الفعل (تضيق) الذي يحتوي حركية سائرة نحو السّكون، اذ يضيق الشيء إلى أن ينغلق فتسكن حركته، أما المعنى الذي يحمله المسند (تتّسع) فهو الامتداد إلى ما لانهاية، ومن ثم يأتي المسند إليه (ميادين الأسرار) وهو الفاعل المعرف بالإضافة وقد جاءت ميادين بصيغة الجمع للدّلالة على كثرة مجالات الأسرار التي تتّسع للمصلّي أثناء إقامته للصّلاة المستوفية لكلّ شروطها.

 ولم يقف المؤلّف عند هذا الحدّ من تكشّف الأسرار للمريد، بل يشبّه ما يقع عليه في أثناء صلاته بنوع من الاشراقات قائلا (تشرق فيها شوارق الأنوار) موظّفا المفعول فيه (فيها) فكما ذكرنا سابقا الصّلاة فضاء وفيها (تشرق شوارق الأنوار )، مستخدما الفاعل بصيغة منتهى الجموع (شوارق) الذي مفرده (شارق) مبالغة ودلالة على الكثرة ومعرّفا تلك (الشّوارق) بإضافة (الأنوار)على صيغة جمع المذكر السّالم (أفعال) لمفرده (نور)، دلالة على كثرة الفيوضات والتّجليات التي هي امدادات (نوره سبحانه وتعالى) تتجلى على قلب المريد الحاضر في صلاته ( عقلا وقلبا ونفسا وجوارحا) «ليكون قلبه نور على نور» (النفري الرندي، 1988).

-علم وجود الضّعف منك فقلّل أعدادها؛سبق وتطرّقنا للفعل (علم) ودلالته المرتبطة (بالوجود) وهي المطلقية في العلم، وقد حلّلنا الحكمة الأولى على ذلك الأساس، وهنا أيضا نجد نفس المعنى حسب العملية الإسنادية في الجملة (علم وجود الضعف منك) اذ يسند الفعل (علم) إلى المسند إليه (الحق) الفاعل المستتر في دلالة على مطلقية علم الله سبحانه، ثمّ يضيف لفظة (وجود) الدالة على علمه سبحانه منذ أوجد الإنسان، اذ كان يمكن للنّاص الاستغناء عن هذه اللّفظة مكتفيا بالقول (علم الضّعف منك ...) لكن المراد هنا هو تذكير الانسان بوجود الضّعف فيه منذ بداية الخلق، وهي اشارة لكون الأمم السابقة أيضا لم تطق ذلك العدد من الصّلوات كما، جاء في تفاصيل فرض الصّلاة أثناء حادثة الاسراء. ولعلمه سبحانه بهذا الضّعف المستمر مع الوجود الإنساني فقد فرض عليه عدد الصّلوات بالقدر الذي تطيقه نفسه وتذعن إليه. وبالإضافة إلى تلك العملية الإسنادية، فإنّ النّاص يقابل أيضا بين (الضّعف) || (القوّة)، ضعف الإنسان وعجزه أمام قوّة الكثرة وسطوتها، فلفظة (قلّل) إنّما تشير إلى (الكثرة) الموجودة قبل حدوث الفعل (قلّل)، ووفق ما تقدّم من أدوات لغوية وتلك الثّنائية الضّدية يوضّح السّكندري الحكمة الإلهية من تقليل عدد الصّلوات اليومية المفروضة من خمسين إلى خمس صلوات، «فالله علم ضعف الإنسان وعجزه عن تحمّل التّردد على أعتابه، خمسين مرة، كل يوم وليلة فلم يحمّله من ذلك إلاّ العُشر» (البوطي، 2004).

-وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها؛ على نفس منوال الجملة السّابقة تأتي هذه الجملة تكملة للمعنى، فهي معطوفة على سابقتها بـ(الواو)، وتكرّر المسند (علم) والمسند إليه (الحق) الفاعل المستتر، وتغيّر المفعول به من (وجود الضّعف) إلى (احتياجك إلى فضله)، فالضّعيف دائم الحاجة إلى القويّ الذي بيده مقاليد الكثرة والقلّة يوازن بها الوجود كيف يشاء، و(الحاجة) هنا تعبير عن الافتقار، ليستمر معنى الضّعف والقوّة بوجه آخر وهو (الفقر) و(الغنى)، إذ يتقرّب الفقير إلى الغنّي بالصّلاة رغبة في الفضل، فيجد المدد عند عتباته سبحانه كثرة لا قلّة تعتريها، حسب دلالة القول (فكثّر أمدادها) وقد جاء الفعل مزيدا بصيغة (فعّل) التي نجدها تفيد الاصرار على التكثير لوجود القدرة عليه. فيكتمل في هذا المقال الوجه الآخر من الحكمة الالهية فهو سبحانه «علم احتياج (الإنسان) إلى رحمته وصفحه وجوده، خفّف عنه تحمّل العبء دون أن يخفّف لهم من المثوبة والأجر» (البوطي، 2004).

إذن هنالك تكثيف في صياغة الجمل، وقد استعان النّاص بالحذف والاستبدال، كما وظّف المؤلّف الثنائيات الضّدية «فالضّد يبرز حسنه الضّد» (ذو الرمة ، قصيدة اليتيمة) وذلك دليل على العناية بالصّياغة اللّفظية، والاهتمام بتحقيق بلاغة الكلام، وتجويد النّص واضفاء الأدبية عليه لكن ليس على حساب المعنى بل لأن المعنى شريف بحث النّاص عن اللّفظ الشريف لجلائه في أبهى صوره، لأنّ «من أراغ (قصد) معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإنّ حقّ المعنى الشريف هو اللفظ الشريف (الجاحظ، 1995). وبذلك تحقّقت جودة النّص على مستواه الأفقي اللّفظي بنفس القدر على مستوى المعاني وما تجيش به من قيم دينية وروحية سامية.

أسلوبية الدلالة

سنعمد في هذا المستوى من التحليل إلى تصنيف بنية الحقول الدّلالية الواردة في نصوص الحكم، وعليه سنستخرج ألفاظَ كلّ بنية ونبيّن دلالتها، وحسب قراءتنا فهي تنقسم إلى ثلاثة حقول دلالية هي: حقل البنية الدّينية، وحقل البنية الصوفية، وحقل البنية النّفسية، وسنفّصل في دلالتها كالآتي:

حقل البنية الدّينية

إنّ الحكم المختارة تتحدّث عن أهمّ فريضة دينية وهي الصّلاة، من بين ما أشارت إليه من العبادات في لفظة (الطّاعات)، لذلك نجد أنّ ألفاظ الحقل الدّيني طاغية في نصوص الحكم سواء بذكرها صريحة أو بحذفها والابقاء على القرائن الدّالة عليها، فتكرّرت لفظة (الصّلاة) في عدّة مواضع في قوله: ( اقامة الصّلاة- وجود الصّلاة- مصلّ مقيم- الصلاة طهرة-الصّلاة محل) وقد أشير إليها باستخدام الضمير الغائب (هي) في قوله: (تتسع فيها ...، تشرق فيها ... ، أعدادها ...، أمدادها )، وهذا التكرار طبيعي ومستحبّ لأنه يوضّح عظم شأن مضمون هذه الحكم. ومن الألفاظ المنتمية لبنية الحقل الدّيني ورود اسم الجلالة (الحق) صريحا بلفظه لمرّة واحدة، وبالقرينة الدّالة عليه المتمثلة في استخدام ضمير الغائب (هو) الذّي جاء مقدّرا ومقترنا بأغلب الأفعال الماضية الواردة في الحِكم وهي: (لوّن، علم، حجرها، علم، قلّل، علم، كثّر) فالمضمون الدّيني لأي نصّ يفرض بالضّرورة الحديث عن الله، وفي هذه الأفعال الماضية يوضّح السّكندري معرفته بالله فهو بالنسبة إليه (العليم) الذي بيده ( التنويع، المنع، الكثرة، القلّة) ومِقدرا كلّ شيء في (الوجود) وهي اللّفظة التي تكرّرت في النّص أربع مرّات، لأنّ الحديث عن (الله) يستوجب الحديث عن (الوجود) بصفته سبحانه (الموجد) أي الخالق، مما يشير إلى ثنائية (الله) (العالم).

كما جاء في النّص الكثير من الألفاظ الدينية، مثل:

-(طهرة) وأصلها من (الطّهارة) وهي أحد أهم شروط أداء العبادات وخاصة الصّلاة.

-(الذّنوب) أي السّيئات والتي تمحيها الصّلاة.

-(الغيوب) وهي من الغيب الذي يعدّ من شروط الإيمان (الايمان بالله والملائكة واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه).

-(فضله) وتعني الجزاء الذي يقع من الله على عبده عند إقامته للصّلاة.

-(المناجاة) أي مخاطبة الله عزّ وجلّ وهي مرتبطة بالصّلاة لكن ليست حكرا عليها فهنالك عبادات أخرى تتمّ فيها مناجاة الله سبحانه وتعالى، وقد اتّخذ منها المتصوّفة لونا من فنونهم النثرية. والملاحظ في هذه الألفاظ ودلالاتها أنّها كلّها ترتبط ارتباطا وثيقا بفريضة الصّلاة فتصبّ في المضمون العام للحكم وتخدم وحدة النّص وتماسكه.

حقل البنية الصّوفية

تنتمي الألفاظ الواردة في نصوص الحكم جلّها إلى حقلين دلالييْن هما: الدّيني والصّوفي. فكما يلاحظ لها دلالة دينية (ظاهرة) تكون بيّنة للعامة، ودلالة صوفية (باطنة) موجّهة للخاصّة، ومثال ذلك لفظة (الحق) إذ تجعلنا نتساءل عن سبب اختيار النّاص لهذا الاسم من بين أسماء الله الحسنى كلّها، ولعلّ الإجابة تكون في اشتقاق الاسم (الحق) من (الحقيقة) والصّوفية كما نعلم يدعون أنفسهم بأهل (الحقيقة) مقابل أهل (الشّريعة) وهي ثنائية أسالت الكثير من الحبر بشأنها. لكن هناك ألفاظ رأينا أنّها ذات دلالة صّوفية تستوجب منّا الكثير من التّأمّل للاقتراب من معانيها الباطنية، لعلّ أوّلها لفظة (القلوب) التي تدلّ على محلّ الباطن عندهم، ونجد أيضا (المناجاة، المصافاة، الأسرار،  شوارق، الأنوار، أمدادها) وهذا المجموع من الألفاظ يدلّ على الجانب الباطني من إقامة الصّلاة الكاملة لدى الصّوفي، فهي صلاة تطهّر القلوب فتقع عليها التّجليات، كما هو بيّن في لفظتي (شوارق الأنوار).

حقل البنية النّفسية

تتخلّل نصوص الحكم تلك الألفاظ الدّالة على طبائع النّفس البشرية، من بينها ذكره لبعض علل النّفس البشرية في (الملل،  الشّره، الهم، الضعف، الحاجة) وقد قابل وجود هذه النقائص في النفس البشرية بالحلول المناسبة لها في (التلوين ، الحجر، الطهر، تقليل العبء، تكثير الأجر) ممّا يدلّ على أنّ صاحب الحكم على دراية بالنّفس البشرية وعلى معرفة بالإنسان وما يضطرب في نفسه، وذلك كما ذكرنا سابقا لأنّ الصّوفية اهتموا بعلم الأخلاق ومعرفة الإنسان.

نستنتج من حقول البنيات الدلالية الثّلاث (الدينية،  الصوفية، النّفسية) أن النّاص استخدم في حكمه ألفاظا دّالة على الله، وألفاظا دّالة على الإنسان، وأخرى دالة على علاقة الصّلة بينهما والمتمثّلة في الصّلاة، فالصّلاة عبادة تستوجب حضور (الإنسان) مع (الله) فيما يعرف عند الصّوفية بدخول (الحضرة الإلهية). وإذا أردنا التّمثيل لهذه الدّلالات ستكون كالآتي:

 

 

 شكل (01): الصلاة الكاملة حضرة إلهية.

 

فالله الخالق يدعو عبده للحضور بين يديه، والعبد المصلّي يستجيب لدعوة الله إلى حضرته وما أعظمها من استضافة.

أسلوبية الايقاع

إنّ القارئ لهذه الحكم سيستشعر للوهلة الأولى أنّ هنالك خيطا موسيقيّا يحكمها، ويشعر بوجود نغم ما يتخلّلها، فالنّثر الفنّي له إيقاع داخلي يتجلّى من خلال توظيف المؤلّف لبعض الأساليب البلاغية، خاصة ما توفّره المحسّنات البديعية كالسجع والجناس، وما يولّده التّكرار، فهي أساليب كفيلة بإشاعة جوّ من النّغم في النّص، وسنحاول إجلاء ما وظّفه النّاص في حكمه التي طبعها بنغمة موسيقية مما يأتي:

التكرار

جاء التكرار في هذه الحكم بأنواعه، تكرار في الحروف والأفعال والأسماء والضمائر، حيث تكرّر الفعل (علم) وتكرر الاسم (الصّلاة) وتكرر المصدر (وجود) و(الاقامة) وتكرّرت الضمائر التي تشير إلى المخاطب (أنت) وتلك التي تشير إلى الصّلاة (هي) وتكرّر الحرف(في) وذلك لأهمية التكرار في تأكيد المعنى، بالإضافة إلى اشاعة جوّ من الايقاع فيخلق نوعا من التناغم بين الألفاظ والجمل والعبارات، لكنّ المؤلّف تفادى التّكرار في بعض المواضع كما رأينا في تحليل بنائية الجمل تحقيقا لبلاغة الكلام، ما يعني أنّ التّكرار أسلوب ذو حدّين أحسن المؤلّف مواطنه. كما نلاحظ اختيار النّاص للألفاظ المتقاربة في مخارج الحروف، فتأتي الألفاظ منسجمة فيما بينها من النّاحية النّطقية بما يجعل النّص ينساب على لسان القارئ دون تعثّر أو تلعثم، ويمكننا أن نرود مثالا ليتّضح الأمر أكثر في الجملة التالية: لمّا علم الحق منك وجود الملل لوّن لك الطّاعات، والواضح في الجملة تكرار في الحروف وتقارب بينها في النّطق وهي: (الكاف واللام والميم والنّون) وهذا على سبيل المثال لا الحصر، وباقي الجمل أيضا يحكمها هذا النّظام.

الجناس

وظّف المؤلّف هذا المحسن البديعي اللّفظي في أكثر من موضع منها في قوله المناجاة، المصافاة، وقوله: تشرق، شوارق، وقوله: أعدادها، أمدادها، ما يسهم في إشاعة النّغم الموسيقي في الحكم.

السّجع

لقد جاءت هذه الحكم مسجوعة، إذ تقف الفواصل في الحكمة الأولى عند حرف (التاء) في قوله: الطاعات – الأوقات، كما تقف فاصلة الحكمة الثانية عند حرف (الباء) في قوله: الذنوب- الغيوب، أمّا الحكمة الثالثة، فسُجعت بحرف (الهاء) في قوله: أعدادها – إمدادها، وهذا السّجع أضفى جرسا موسيقيا على الوقفات وحقّق التّناغم بين الحكم لتقارب حرفي (التاء والباء).

إنّ تلك الأدوات البلاغية كان من شأنها إضفاء المزيد من القيم الفنّية على نصوص الحكم والملاحظ أنّ المؤلف لم يبالغ فيها، وإنّما استخدمها دون إفراط أو تفريط فجاءت على قَدَرِ، ومناسبة للجوّ العام في التأليف، فالسكندري عاش في القرن السابع الهجري، حيث كان التأليف يُعنى بالصّياغة اللّفظية، لكن رغم ذلك لا نجد في هذه الحكم تكلّفا ولا تقعّرا ولا تشدّقا ولا لفظا غريبا ولا إطنابا أو إسهابا، وإنّما جاءت موجزة ومكثّفة.

خاتمـة

ختاما، لا يمكننا القول أنّنا استوفينا في هذا البحث الحديث عن أشكال الخطاب الصّوفي النّثري كلها، والوقوف وقفة تأملية في أسلوبية هذا الخطاب عند ابن عطاء الله السّكندري بشكل كاف، لأنَّ دراسة الخطاب الصّوفي النّثري مبحث شاسع الأرجاء، يحتاج إلى اهتمام أكثر من الدّارسين بقدر اهتمامهم بالخطاب الصّوفي الشّعري، وذلك باستغلال ما تتـيحـه المناهج النقدية الحديثة من أدوات من شأنها أن تقارب هذا الخطاب وتكشف عن جمالياته.

وممّا توصّلنا إليه في هذه المقاربة، أنّ نصوص الحكم العطائية تكتنز قيمًا تجلت في معانيها السّامية وجماليات أسلوبها، كما أفصحت هذه الحكم عن مصادرها بصورة بيّنة والمتمثلة في القرآن الكريم والسّنة النّبوية. ثم إنه تجلّت فيها المعاني الصّوفية الراقية من خلال تقديم الرؤية الخاصة بعظمة فريضة الصلاة من وجهة المؤلف الشيخ العارف الصّوفي والفقيه، كما أبانت هذه الحكم عن المعرفة التّي يتمتّع بها مؤلّفها، معرفته بالله وبالإنسان وبطبيعة الصّلة بينهما من وجهة صوفية.

كما بدى الـمؤلّف حريصا على إجلاء تلك المعاني الدينية والروحية السّامية في الثوب اللّفظي المناسب لها، وأولى السّبك عناية بالغة، مستعينا بأسلوب بلاغي يحقّق الجمالية دون أن يهلهل المعنى فأصاب المعنى وحقّق الفنّية

المراجع

ابن تيمية . (1348هـ). الصوفية والفقراء. جدّة: دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع.

ابن عباد النفري الرندي. (1988). شرح الحكم العطائية. مصر: مركز الأهرام للترجمة والنشر.

أبو العلاء عفيفي . (1963). التصوّف الثورة الرّوحية في الإسلام. بيروت: دار الشعب للطاعة والنشر.

أبو القاسم الجنيد. (1988). رسائل الجنيد . القاهرة: دار الكتب المصرية.

أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني. (1979). مدخل إلى التصوّف الإسلامي. القاهرة : دار الثقافة للنشر والتوزيع.

أبو حامد الغزالي . (1416هـ).مجموعة رسائل الإمام الغزالي. القاهرة: المكتبة التوفيقية.

أسعد السمحراني. (2008).التصوّف منشأه ومصطلحاته. بيروت: دار النفائس.

الجاحظ. (1995). البيان والتبيين . لبنان: دار الجيل.

الحارث بن أسد المحاسبي. (1999). مواعظ للإمام الحارث المحاسبي. بيروت: المكتب الإسلامي.

القشيري. (1987). الرسالة القشيرية. بيروت: دار أسامة.

زكي مبارك. (2012). التصوّف الإسلامي في الأدب والأخلاق. القاهرة: مؤسسة هنداوي.

سعيد حوى. (1999). مذكرات في منازل الصّديقين والربانيين من خلال النصوص وحكم ابن عطاء الله السكندري. القاهرة: دار السلام .

شوقي ضيف. (1995). تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الثاني. مصر: دار المعارف.

عباس محمود العقاد. (2016). التفكير فريضة إسلامية. الجزائر: دار المجدد للنشر والتويع.

عبد الحليم محمود. (2004). العالم العابد العارف بالله ذو النون المصري. مصر: عربية للطباعة والنشر .

عبد الرحمن ابن خلدون. (2014). المقدمة . القاهرة: دار الغد الجديد.

عبد الرحمن بدوي. (1978). تاريخ التصوف الإسلامي. الكويت: وكالة المطبوعات.

عبد العزيز عتيق. (2009). علم المعاني . لبنان: دار النهضة العربية.

عبد القادر أحمد عطا. (1987). التصوّف الإسلامي بين الأصالة والاقتباس في عصر النابلسي. لبنان: دار الجيل .

عبد القاهر السهروردي. (1983). عوارف المعارف. بيروت: دار الكتاب العربي .

عبد المجيد الشرنوبي. (1989). شرح الحكم العطائية. دمشق: دار ابن كثير .

علي الخطيب. (1404هـ). اتجاهات الأدب الصوفي. القاهرة: دار المعارف.

محمد سعيد رمضان البوطي. (2004). الحكم العطائية شرح وتحليل. دمشق: دار الفكر المعاصر.

مصطفى محمود. (2017). تصوف العاشقين وصفاء العارفين. الجزائر: دار المجدد.

رينولد نيكلسون. (1947). في التصوف الإسلامي وتاريخه. مصر: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.

لويس ماسينيوس، و عبد الرزاق مصطفى. (1984). التّصوف. لبنان: دار الكتاب اللبناني.

خالد سعود البلهيد. (بلا تاريخ). فقه الوعظ. تاريخ الاسترداد 26 ماي, 2021، من صيد الفوائد:

 http://www.saaid.net/aldawah/339.htm

@pour_citer_ce_document

فاطيمة بن أحمد / عبد الرحمان بغداد, «استنطاق خطاب النثر الصّــوفي في نماذج مختارة من الحكم العطائية- مقاربة أسلوبية – »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 114-129,
Date Publication Sur Papier : 2024-01-24,
Date Pulication Electronique : 2024-01-24,
mis a jour le : 24/01/2024,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=9654.